صحيح أنّ الحديث اليوم عن نتائج وثمار سياسية وعسكريّة سريعة لإنهاء الأزمة السورية هو ضرب من ضروب اللغط القائم على المزاوجة الهجينة بين التحليل والتمني، ولكنّ من الواضح أنّ شيئا من الإرادة المحلية والدولية الساعية إلى إحلال السلام لا إلى إتمام التسوية أو إقرار الهدنة العسكرية الهشّة بات يتشكّل رويدا صلب المشهد السوريّ.
قد تكون نقطة الضوء المنبعثة من ركام الحرب والاحتراب كامنة في قيمة الورقة التفاوضية التي قدّمها الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا للفرقاء السوريين، وهي ورقة تضرب أسس الحلّ السياسي بناء على القرار الدولي 2254، والقاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي وكتابة دستور وإجراء انتخابات عامّة.
ولن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ أبرز نقطة في الورقة متمثلة في العبارة ذات المصطلحات الأربعة التي دبّج بها دي ميستورا ورقته التفاوضية وهي “حكم ذي مصداقية وغير طائفيّ”.
من الواضح أن دي ميستورا أصاب كبد الصواب من حيث التركيز على حكم سوري يحظى بمصداقية الشعب السوري ويمثّل كافة المكونات السورية، من دون أن يتحوّل هذا التمثيل إلى طائفية دستورية أو سياسية أو قضائية تضرب في العمق فكرة “دولة المواطنة”، ومبدأ المواطنة بما هي انتماء للدولة عبر تعاقدية الحقوق والواجبات المشتركة والمدنية الميثاقية بمنأى عن الولاءات الهوياتية والقبلية ما تحت الدولة أو الولاءات الدينية العابرة لها.
تمثّل نقطة الحكم غير الطائفي الخيط الناظم لكافة الأفكار الأساسية الأخرى، فلئن كان التوافق على مدنية الدولة فلا بدّ أن ينسحب هذا الأمر على الدستور من حيث تعريفه للدولة السورية وعلى الانتخابات التشريعية والبلدية والرئاسية وعلى مكونات البرلمان وتشكيلة الحكومة لاحقا.
من الواضح أنّ المحاصصة السياسية والدستورية والانتخابية التي ضربت لبنان والعراق، والمحاصصة الإثنية التي قصمت ظهر أفغانستان، والمحاصصة المناطقية التي تهدّد ليبيا بالتشرذم الجغرافي، مثّلت خير درس استلهمه واستبطنه المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا خلال جولاته في الشرق الأوسط وعمله في مناطق النزاع.
المحاصصة الطائفية والإثنية قد توقف الحرب ولكنها بالتأكيد لا تصنع السلام، وقد ترضي الهويات القبلية والعشائرية والإثنية والدينية بمفعول تقسيم السلطة، ولكنّها إرضاء هوياتي على حساب الدولة وعلى حساب النسيج الاجتماعيّ والسلم المدني، وقد توقف الاحتراب وقتيا وجزئيا لكنّها لا تبني مؤسسات الدولة ولا تلغي فكرة أن العنف الشرعي موكول للدولة المدنية فحسب.
بهذه الطريقة يكون دي ميستورا قد وضع التسوية على مسارها الصحيح، بالإمكان أن نجادل طويلا في أسباب عدم إردافه وضع المدنية للحكم غير الطائفي، وبالإمكان أيضا أن نساجل في عبارة “الحكم” وليس الدولة، ولكنّ الأهم بالنسبة إلى سوريا اليوم التي تعيش الاحتراب السياسي والاجتماعي والتي تعرف الهوّة الإثنية بين مكوناتها على خلفية التثوير والتضليل وتجاوزات الدولة في أكثر من صعيد أيضا، أن تتجنّب لوثة الطائفية التي حوّلت الدولة الحاضنة للطوائف إلى طائفيات مصادرة للدولة.
في حال التوافق والتقاطع بين الفرقاء السياسيين والعسكريين السوريين والوكلاء الإقليميين والدوليين لهذه النقطة المحوريّة، تكون سوريا- الدولة والدور- قد وضعت على مسار إعادة الإعمار السياسي والمدني والثقافي والاجتماعيّ وحادت ولو قليلا عن مآلات التفتيت الإثني والتشرذم الهوياتيّ.
ليبقى السؤال الكرديّ في سوريا ومسألة كردستان الكبرى في الشرق الأوسط المعضلة الحقيقية في ظلّ غياب الممثل الكردي عن كافة محادثات السلام، وفي خضم الحديث عن الاستقلال الناعم والتقسيم الهادئ المدعوم بالقوات الخاصة الأميركية البالغ عددها اليوم في سوريا 500 عنصر أمني.
وهو ما يفرض على الفرقاء السوريين والفاعلين الإقليميين والدوليين التنقيب الجديّ على معادلات جديدة تقوم على المواطنة الثقافية الواسعة وثقافة المواطنة المتسعة للجميع ضمن الدولة الواحدة والموحدّة.
أمين بن مسعود