من جهة أخرى و في نفس السياق قالَ "ناجي حنتوش" المسؤول في الهيئة الوطنيّةِ لاتفاقيّةِ الأسلحة الكيميائيّة التابعة لوزارةِ الخارجيّة الليبيّة إنّ الكمية المشحونة تقارب 860 طناً من مادة الخرْدل السامّة، كانت مَحفُوظة في 23 مخزناً في قاعدةِ الجّفرة (جنوب غربي البلاد)، وبدأ تجميعُها منذ عام 2012.
أمّا المُتحدّث باسم وزارة الدفاع الألمانيّة فقد قالَ "إنَّ الأمرَ يتعلّق بنحْوِ خمسمئة طنّ من الموادّ الكيميائية السامّة التي سيتم تدميرُها في مونستر بألمانيا" من قِبَل شركةٍ سَبَقَ أنْ أتلفتْ مخزونات الحكومة ِ السوريّة. وذكرت واشنطن الرقمَ نَفْسَه ،بينما تحدّثتْ تقارير أخرى عن 400طن فقط مِنْ غازِ الخَرْدَل. فالفرْق في هذه الأرقام المُتَدَاوَلَة يترواح بين الثاثمئة والأربعمئة طن !. أمَّا في سنة 2004التي انضمّت فيها "الجماهيريّة الليبيّة " إلى مُنَظَّمةِ حَظْرِ الأسلِحةِ الكيميائيّة ومَقرّها "لاهاي" فقد كانَ يَتَعَيَّنُ على حكومةِ القذافي أنْ تُدَمِّرَ 11,5طن مِن غازِ الخرْدَل والذي كانَ يساوي 54بالمئة مِن مَخزونِ هذا الغازِ في ليبيا!.
كما نُلاحِظُ ، تتضارَبُ الأرقام المُتَداوَلَة بشأن المخزون الليبي مِن الأسلِحة الكيميائيّة في حين تؤكِّدُ تقارير أنّ كمية الأسلحة الكيميائيّة التي تَمَّ التصريح بأنها أخْرِجَتْ مِن ليبيا لِتُصبِحَ الأخيرَة "خالية تماماً مِنَ السلاحِ الكيميائيّ" ، هي أقلّ بحوالي أكثر مِن 200طن مِنَ الكميّة التي كانَ يُعْتَقَد أنّها مَوْجُودَة في ظلِّ حكم العقيد القذّافي.
و لسائل أن يسأل أيْنَ ذَهَبَتْ هذه الكميّة التي أُخْفِيَتْ أوْ هُرِّبَتْ ، وواقِعُ الحال أنَّ المُخابرات الغربيّة الأمريكيّة والفرنسيّة والبريطانيّة والألمانيّة على علمٍ بكلِّ شاردة ووارِدَة على الأرْضِ الليبيّة الشاسِعة ، وخاصّة بما يتعلَّقُ بملفّ الأسلحة الليبيّة ، والكيميائيّة مِنها خاصّة. ولكنّهُم يتَكَتَّمُون عن الحقائق.
و ان كانت وسائلُ الإعلامِ الغربية وحتى بَعْضُ أجهزتهم وَبَعْض المسؤولين الغربيّين عندما يُصبِحُونَ خارج الحكم والمسؤوليّة أو على حافّةِ الخُرُوجِ مِنْهما يميطونَ اللثامَ عن بَعْضِ الحقائق ، إلا أنّ هذا الغَرْب لا يُقْدِمُ أبَداً على التصريحِ بِها رسميّاً على الرّغمِ مِن خُطُورَتِها على البشريّة بأسْرِها أو على جزْءٍ مِن هذه البشريّة . فَقَطْ يَتَحَدّثونَ أحياناً بعناوين ورؤوس أقلام عندما يكونُ المُهَدَّدُ غَرْبيّاً.
فوزير خارجيّة فرنسا "مانويل فالس" الذي ما يزالَ الدَّمُ الليبي يَقْطرُ مِن مَخالِبِ بِلادِهِ التي تُبَرِّرُ "الرّبيعَ العربي" بأنَّهُ يستعيدُ الفُصُولَ الدّامِيَةَ مِن "الثّورة الفرنسيّة" (استِعادَةً تاريخيّةً لِتِلْكَ المأساة على شَكْلِ مَهْزَلَة!) ،"فالس" هذا في رَقْصَةٍ أخرى على الدَّمِ الليبي حَذَّرَ مِن "قيامِ عَناصِر مُواليَة لِتَنْظِيمِ داعش بِشَنِّ هُجُومٍ تَسْتَخْدِمُ فيهِ أسلِحَةً كيميائيّةً في أوربا" لكنّه يسْتدرك فَيَسْتَبْعِدُ هذا الخَطَرَ عندما يتذَكَّر حقيقة تنظيم "داعش" والهَدَف مِن خَلْقِه وتقديم الأسلِحَة الكيميائيّة إليه بَعْدَ تقديمها لِنَظيرِهِ تنظيم "جبهة النّصْرَة". بل حتى "إسرائيل" تؤكِّدُ أنّ "داعش" يمتلك سلاحا كيميائياً وتحديداً غاز الخرْدَل لكنّها تُطَمْئنُ سكَّانَ المُستوطنات الإسرائيليّة بأنَّ "تنظيمَ داعش" غيْر مَعْنِيّ بِشَنِّ عمليّات ضدَّ "إسرائيل" كما صَرَّحَ مسؤول إسرائيلي "رفيع" على القناة العاشرة مِن التلفزيون الإسرائيلي. فكيفَ حَصَلَ "داعش" على السلاح الكيميائي ، ولماذا؟.
في شهر أفريل 2016 كَشَفَ "سيمور هيرش" الصحفيّ الأمريكيّ الشهير لموقع Alternet.org عَن أنّ إحدى مهمات القنصلية الأمريكية في بنغازي كانت تقضي بإرسال غاز السارين إلى "المتمردين" في سوريا عبْرَ تركيا وتحميل الحكومة السوريّة مسؤولية استخدامِهِ بما يبرِّر غزواً أميركياً لسوريا على غرارِ ما حَصَلَ في ليبيا.
لقد قال هيرش حرفيّاً : "إن السفير كريستوفر ستيفينز (قُتِلَ في الهُجوم على القنصليّة) التقى خلال مهمّته الدبلوماسيّة قائدَ قاعدةِ الاستخبارات المركزية وشركة الشحن المسؤولة عن نقل غاز "السارين" إلى سوريا عبْر تركيا" مؤكداً أنه كان متورِّطاً وعلى علْمٍ بِكُلِّ ما يدور، ومشيراً في الوقت نفسه إلى أنّه "لا يُمكن لأيِّ شخص في مثل هذا المنصب الحّساس أن لا يتحدَّث إلى مسؤولهِ من خلال قناة ما"، في إشارة إلى هيلاري كلينتون. كما أنّ ثمّة تقارير لاحقة أكّدتْ أنّ المُخابرات الأمريكيّة كانت تُدَرِّب جماعات الإرهابيين التكفيريين والمُرتزقة على كيفيّة استِخدام غاز السارين. وبيّن هيرش أنّ هذا الغاز السامّ الذي أوصلتْه المخابراتُ الأمريكيّة (بدعم السعوديّة وتركيا)عن طريق المخابرات التركية مِن ليبيا إلى "جبهة النصرة" في سوريا هُوَ الذي بِهِ قَصَفَت "جبهةُ النصرة" يومَ 21أوت2013المدنيّين في غُوْطَة دمشق ، ثمّ بدأت وسائلُ الإعلام الغربيّة على الفور باتّهام الجيش السوري بهذا القصْف ، وبدأ الرئيسُ السابق "أوباما" يتحدّث عن "الخطوط الحمراء" على الرّغم مِن صُدورِ تقريرٍ عن المُخابرات العسكريّة الأمريكية تؤكد فيه أنّ الجماعات الإسلامية الإرهابية هي التي كانت وراءَ هذا الهجوم. وإضافةً إلى "سيمور هيرش" نَشَرَ الصحفي الألماني "كريستوف لهمان" في أكتوبر2013بحثاً طويلاً وشديدَ الأهميّة بعنوان "كِبارُ المسؤولين في السعوديّة والولايات المتحدة الأمريكيّة هم المسؤولون عن استخدامِ الأسلحة الكيميائية في سوريا" أثْبَتَ فيهِ أنّ كافّةَ الأدِلَّة تُبَيِّنُ ضُلُوعَ "مارتن ديمبسي" رئيس هيئة الأركان المُشتركة الأميركية ، و"جون برينان" مدير وكالة المُخابرات المَركزيّة الأمريكيّة ، والأمير "بندر بن سلطان " رئيس الاستخبارات السعوديّة في تدبير العمليّة بمعرفة البيت الأبيض وأوباما شخصيّاً.
كما أنّ مَعْهَد MIT الشهير في بوسطن قال: "لا تُؤكِّدُ الأدلَّةُ كافّة التي قَدَّمَتْها الولاياتُ المُتّحدة عن هجوم 201أوت2013الكيميائي،ضُلُوعَ الحكومة السّوريّة بالهجوم" ، وما أدرجناهُ أعلاه عن هُجوم الغوطة ينطبق على هجمات كيميائيّة خَطِرَة كانَ فريقُ خُبراءٍ تابعٌ للأمم المتحدة قد قالَ في تقرير رفعه إلى مجلس الأمن، أنه أحصاها ، وأنّها “من المُحْتَمَل” أن تكون وقعتْ في سوريا خلال العامين 2014 و2015، مشيراً إلى أنه لم يتوصل بَعْدُ إلى تحديد الجهات المسؤولة . وَتَضَمَّنَ التقريرُ قائمة أولية بخمس هجمات كيميائيّة قال الخُبراء أنهم أعْطوا الأولوية للتحقيق فيها، بينها ثلاثُ هجمات وقعتْ في محافظة إدلب (في تلمنس في 21 أفريل 2014 وفي قمينس وسرمين في 16 مارس 2015). كما أحصى الفريق “حالتين مْحتَملتين تم تحديدُهما”، الأولى في كفرزيتا (محافظة حماة يومي 11 و18 أفريل 2014) والثانية في «مارع»؛ (محافظة حلب في 21 أوت 2015).
وكانت الدول الغربية الكبرى، استغلت الموضوع سياسيا، فوجَّهت التهمة إلى الحُكُومة السورية بالوقوف خلف الهجمات الأربع الأولى الواردة في هذه القائمة، في حين أنّ المُتَّهم باستخدام غاز الخرْدل في «مارع» هو تنظيم داعش الإرهابي. كما ينطبق على 116هجوماً مُحْتَمَلاً أحْصَتْها بمواد سامّة في سوريا أحصَتْها منظمةُ حظْر الأسلحة الكيميائية حسب ذات التَّقرير.
إذَنْ هَرْوَلَةُ الولايات المتحدة والأوروبيين لمساعدةِ ليبيا في التخلُّصِ من المواد الكيماوية المُخَزَّنة ، لا يعكسُ "عدَمَ ارتياح إدارة أوباما لكفاءة الحكومة الليبية في حماية تلك المواد، التي يمكن تحويلها إلى غاز الخردل القاتل" كما زَعَمُوا، بَلْ لِتَغْطِيَة فضيحة تَصَرُّف الأمريكيّين بالأسلحة الكيميائيّة قَبْلَ ترحيلِ ما تَبَقّى مِنْها مِن "مصراتة" على سفينةٍ دانماركيّة إلى ألمانيا " وَبتَواطُؤِ المُنَظمات الدوليّة المَعنيَّة . وهكذا فقط يُمكِنُنا فَهْم قَوْل مسؤول أمريكي كبير: "اهتممْنا كثيرا بنقلِ تلك الكيماويات من ليبيا، فقد رَكَّزْنا عليها منذ أنْ علِمْنا بوُجُودها".ِ
ولكي تَتَّضِحَ الصُّورة أكثر نُشير إلى أنّ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي ايه»؛ «جون برينان» قال إن تنظيم داعش استخدم أسلحة كيميائية وقادرٌ على إنتاج كميات قليلة من الكلورين وغاز الخرْدل. وأضافَ «برينان» لشبكة «سي.بي.اس.نيوز» في المقابلة مع برنامج (60 دقيقة) التي تم بثها كاملةً “لدَيْنا عدَدٌ من الإشارات التي تدل على أن تنظيم داعش استخدَمَ ذخائر كيميائية في ميدان القتال”. و إن “وكالة الاستخبارات المركزية تعتقد أن التنظيم قادرٌ على صنْع كميات صغيرة من الكلورين وغاز الخرْدل”. و“هناك معلوماتٌ تفيدُ أن في مُتَنَاوَل يَدِ تنظيمَ «داعش» موادّ وذخائر كيميائية يمكنه استخدامها”. مُحَذِّراً من أنّ التنظيم يُمكِنُ أن يَسعى إلى تصديرِ الأسلحة إلى الغرْب لتحقيقِ مكاسب ماليّة. أيْ كما كانَ يُصَدِّر النَّفْطَ مِن خلالِ تركيا وتحت عيون الناتو والأقمار الصناعيّة الأمريكيّة . صنَعوا هذا التنظيم الوحشيّ "داعش"، كما كانوا قد صَنَعوا سَلَفهُ تنظيم "القاعِدَة" ، ثُمَّ أطْلَقُوه حصانَ طروادَة هُنا وَهُناك لِتَحقيق أهدافِهِم على حساب مَصالح الشعوب التي يستهدفونها بل على حساب حقّ تلكَ الشعوب الأساس في الوجود والحياة.
والآن بَعْدَ أنْ هَرَّبُوا الأسلحة الكيميائيّة الليبيّة إلى تنظيميّ "داعش" و"النَّصْرَة" الإرهابِيَّين ودَرَّبوا مُقاتليهِما مِنَ التكفيريين والمُرْتَزَقَةِ على تلكَ الأسلحة ، يُريدونَ أن يَطْووا ملفّ الأسلحة الكيميائيّة الليبيّة التي وَصَلَتْ كميّاتٌ كبيرة منها إلى "النصرة" و"داعش" لأغراضٍ سياسيّةٍ أمريكيّةٍ عَرَضْنا بَعْضَها أعلاه ، كمُحاوَلَةِ اتّهام الحكومة السوريّة وشيطنتها واختِلاق الذرائع للتدخّل العسكري ضدَّ الدولة السوريّة وجيشها ورمزها الوطنيّ الرئيس بشار الأسد. يُريدُونَ أنْ يَطووا هذا الملفّ بإعلان ليبيا خاليةٌ مِن السلاحِ الكيميائي والزَّعْم بأنّ "داعش" باتَ يَصْنَع أسلِحَة كيميائيّة ، كي يَتَنَصَّلُوا مِن مسؤوليّةِ تَوَرِّطِهِم بإيصال الأسلحة إلى التنظيماتِ الإرهابية المذكورة ، خاصّةً وأنَّ الغَرْبَ الذي اخْتَلَقَ "داعشَ" و"النَّصْرَةَ" وسواهما وَمَكَّنَهم مِنَ المالِ والمُقاتِلينَ والسّلاح بِمُخْتَلَفِ أنواعِهِ بِما في ذلكَ السِّلاح الكيميائيّ يُبَيِّتُ ما لا تُحْمَدُ عُقْباه بالتَّسَتُّرِ على "اخْتِفاءِ" جزْءٍ لا يُسْتَهانُ بِهِ مِن أسلحةِ "نِظامِ القذّافي" الكيميائيّة ، مِمّا يَعْني أنَّ المنطقة ، وخاصّة ما يُسَمّى "بُؤر التَّوَتُّر" السابِقَة والرّاهنة واللاحِقة، مِن مُفاجآتٍ سيّئة علا هذا الصّعيد.
بقلم : هادي دانيال