انتخاب ترامب شكل صدمة للمحللين الاستراتيجيين العالميين فقد دخل هذا الرجل الانتخابات الأمريكية بدون دعم حزبي كبير وتخلي مُعْلن من نصف الجمهوريين عنه وانهيار أدوات حملته ومعاضديه في منتصف الحملة الانتخابية وانحسار تحمسهم عن استكمال الحملة إلى منتهاها ودخل الرجل المعترك الانتخابي بدون مساندة من وول ستريت ولوبيات المال والأعمال الكبرى ومن دون الماكينة الإعلامية التقليدية المخلّقة للرأي العام الأمريكي والمتحكّمة الفعليّة في مخرجات نتائج الانتخابات .ودخل الرجل الانتخابات بدون دعم الفنانين وممثلي هوليود الكبار وبحجم أموال تعادل خُمُسَ الأموال التي أنفقتها غريمته في حملتها الانتخابية وحتى بدون دعم مؤسسات الإدارة الأمريكية المعلومة التيدأبت على تصنيع رؤساء أمريكا على مرّ التاريخ ومنها اللوبي الصهيوني واليهودي ،وليس ذلك فقط بل باجتراح أخطاء كبرى ومصيريّة ومنها الإشادة بخصم أمريكا اللدود ( بوتين) واستهداف ملايين المهاجرين المكسيكيين وملايين مشغّليهم وبنبرة عنصريّة لا تحترم حقوق الانسان ولا حقوق المهاجرين والاتفاقيات الدوليّة وبأسلوب تمييزي ضدّ المرأة والأقليّات، وفي مقابل ذلك بعث برسائل طمأنة للمؤسسة العسكرية التي ضمن لها التخلّي عن إقحامها في النزاعات الدولية الماحقة ، وطمأن الشعب حول عزمه الراسخ واهتمامه الأكيد بقضاياه الداخلية والمادية فحسب وتأكيده على تحييد أمريكا في النزاعات الدوليّة لتحقيق السلم العالمي لمواطنيها في الداخل والخارج بعيدا عن دعم الارهابيين الدوليين وأنصارهم ، وخاطب بأسلوب مقنع الأمريكيين الغاضبين من تغوّل السيستام والمدمّر للطبقة الوسطى وخاطب الرافضين للسائد، المتطلعين لقضايا وهموم بلادهم لا قضايا وهموم الآخرين وكان ذلك كافيا لكسبِ ثقة الناخب الأمريكي الذي مازال محافظا ومتخلفا ولا يستسيغ أن تدير كلينتون "المرأة " وكلينتون العائلة وكلينتون الورثاء دفة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لعدم قدرتها وقدرتهم وكفائتها وكفائتهم وعدم التزامها ومحافضتها وخاصة في ردة فعلها في موضوع زوجها وفضيحته مع مونيكا لوينسكي.
وبعيدا عن التحليل العميق والمفاعيل الحاسمة في انتخاب "ترامب" .وانتصارا لفهم ماورائيات نتائج الإقتراع الأمريكية نتجه مباشرة لاستشراف تداعيات هذه الانتخابات على الصعيد الداخل الأمريكي المواطنين والخارج الدولي في كل مستواياته ومخرجاته وتداعياته وتأثيراته على جغرافيّة العالم وواقع الناس وحياة البشريّة .
فترامب من وجهة تحليلنا سيكرس اهتمامه على المواطن الأمريكي ومزيد إثرائه ورفاهه وسعادته وتجنيبه الصراعات والمحافظة على قدراته المالية والاقتصادية الأساسيّة والترفيهيّة ومستوى دخله وكذلك المحافظة على الطبقة الوسطى التي تآكلت وتضاءلت بسبب السياسة الخارجيّة المكلفة على المواطن الأمريكي . كما تجنيب أفراد جيشه من حشرهم في بؤر التوترات وحماية الشعب الأمريكي من الارهاب والعمليات الارهابية في الوطن وخارجهُ . وسيربأُ "دونالد"بسياسته الدوليّة المستقبليّة عن المواجهة والصراعات المباشرة مع الدب الروسي ، ومع الدول المتلاشية .وسيتجه اقتصاديا واستراتيجيا نحو شرق آسيا وسيترك منطقة الخليج بخيراتها تعيش إحترابا وفقرا وصراعات مسلحة تنطلق من اليمن وتكتسح البحرين والإمارات وقطر .
كما سيُفاقم من دعمه ومساندته المكشوفة والمفضوحة"لإسرائيل" ومنها سيفترق العرب والمسلمون إلى مجموعتين متنافستين ومتنافرتين متصارعين في ذات البلد الواحد وسيتمزق النسيج المجتمعي والسياسي والجغرافي للبلدان العربيّة بسبب ما سيُخلّفُه الانحياز الأعمى للموقف الأمريكي الداعم لخيار التطبيع والإسناد الفعلي والخضوع الكامل للإسرائيليين وفي المقابل سيرفع "ترمب" يَدَ الإدارة الأمريكيّة ويوقف دعمها اللامشروط للسعودية وسيتركها تسقط في منحدر أفعالها الفتنويّة ونتائج حربها الاستنزافية على اليمن وسيعمل رجل البيت الأبيض الجديد على تشديد العقوبات المالية على أمراء وملوك السعوديّة لتنطلق على إثرها الصراعات البينيّة بين أحفاد عبد العزيز (آخرهم سلمان) وبين أحفاد أبناء عمّهِ لتعمّ الفوضى في الجزيرة العربية كلها.
أما موقفه من الصراع في سوريا :فقد اعتبر ترامب في تصريحاته التلفزية أن بشار الأسد هو رجل يجيد محاربة الارهاب ولكنه يبقى الشخص السيئ في المكان السيئ، وستتأثر مواقفه من سوريا بقدر اقتراب وابتعاد روسيا من هذه المنطقة ورهان هذه الأخيرة على بقاء الأسد والمحافظة على نظامه أو خلاف ذلك .
ويعلم الجميع أن روسيا لها مصالح استراتيجية مع سوريا لعبور غازها لأوربا دون عبور الغاز الخليجي لهذه المناطق كما أن الاستقرار في سوريا هو بالضرورة استقرار في محيط سوريا المتحالف مع الروس وبالتالي هو استقرها الاستراتيجي ولذلك لا يراهن ترامب على مغامرة خطرة في استثارة الدب الروسي وتهديد مصالحه الاقتصادية والتجارية الحيويّة المرتبطة بسوريا خاصة بعد نقل ترسانة عسكريّة روسيّة تهدد السلم العالمي وتستهدف التواجد والإشارات الحمراء الأمريكية المهدّدة لمصالح روسيا الحيوية في المنطقة ويُسْتشف منها جديّة في خوض حروب مدمّرة وعزم راسخ من بوتين على التواجد الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط تمهيدا لفرض نديّة في القطبية وتوازن في الأقطاب متقايس ومتضادد وقويّ ومتعادل بين الخصمين .
ويتأكد اليوم بشكل حاسم وواضح الاتفاق الضمني على إنهاء الأزمة السوريّة وانتهاء مخطط تقسيم سوريا القديم والتخلص من كل المجموعات الارهابية في غضون منتصف سنة 2017 وفرض الخيار الروسي العنيد.
وفي المقابل فإنّ ترامب سيبقى له موطن قدم في المنطقة وسيبقى الشرطي التقليدي في الشرق الأوسط الجديد وسيعتمد شعار وشماعة خطر " حزب الله على السلام " الإسرائيل " في هذه الربوع كمبرّر لتواجده العسكري وتدخّله في سياسة الشرق الأوسط وسيعمل على تعفين المنطقة بمواقفه المناهضة "للعمليات الارهابية" حسب قوله سواء في الأراضي المحتلة أو في غزّة أو في مزارع شبعا والمناطق الحدودية المتاخمة "لإسرائيل" وهو ما سيمهّد لتخليق مناخ دولي يجرّم كل عملية مقاومة ترغب في التحرر من الإحتلال حسب مقتضيات القانون الدولي في طريق النيل من هذه الحقوق في المحافل الدولية وفي مجلس الأمن وفي الجمعيّة العامة . ولذلك عبّر قادة هذا الكيان بما معناه أن قدوم ترامب للرئاسة هو نهاية عملية لفكرة قيام الدولة الفلسطينية،وقد هللوا وصرحو بارتياحهم لفوز ترامب،وقد اعتبره "نتانياهو" صديقا حقيقيا لإسرائيل وذكّره بالالتزام بوعوده الانتخابية بنقل عاصمة " اسرائيل" من تل أبيب إلى القدس المحتلّة وهو ما يؤشر إلى اشتعال نيران الحرب في المنطقة حيث ستتعرض حركة حماس وحزب الله إلى حملات الشيطنة وَوصْمِها بالحركات الإرهابية في حال قيامهم بعمليات نوعية مُقاومة أو استشهاديّة ضد المحتل في مزارع شبعا وكذلك في غزة أو في الضفّة وأعتقد أن صيف سنة 2017 سيكون منطلقا للحرب المدمّرة القادمة ضد الحركة والحزب بعد أن أخفقت كل مشاريع تجريم وشيطنة وتقزيم هؤلاء لأكثر من ربع قرن حيث عجزت كل مخططات الديمقراطيين في أمريكا من تحقيق سلام"إسرائيل "في المنطقة وأظنها ستخفق من جديد مع كل محاولات ترامب العنجهيّة والعسكرية.
وفي هذه المعركة ، ستتمايز وتتمحّص صفوف المناصرين لتحرّر شعبنا الفلسطيني وانعتاقه من الاحتلال والمنتصرين للمقاومة الفلسطينية المسلحة من جهة وبين أولئك الذين يتخذون هذه القضيّة شماعة وأداة للتمعّش والاستثمار والمتاجرة، وقد تنجرّ بعض الدول في الانخراط في هذه الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر وهو ما سيعيد مشكلة الشرق الأوسط على طاولة الاحتراب الدولي.
ترامب والشأن الإيراني:
أكد دونالد ترامب في حملته الانتخابية أنه ضد الاتفاق النووي المنجز مع الإيرانيين، ووعد بمراقبة تنفيذه بدقة شديدة إذا وصل للحكم وهذا في رأيي يصب لصالح ايران باعتبارها المستفيد الأكبر من الالتزام بالتنفيذ الدقيق للاتفاق خاصة بعد بروز ذلك التملص والهروب من طرف إدارة أوباما عن الالتزام ببنوده ولئن يصعب التراجع عن الاتفاق باعتبار انعقاده مع (ستة6) دول كبرى إلا أن ترامب وبذات التوجهات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية السابقة سيلعب ورقة العقوبات الاقتصادية القاسية والتهديد الاعلامي المستمرّ المهندس من اللوبي الصهيوني في العالم ، وقد فهمت الجمهورية الاسلامية رسالته واعتبرت دعايته الانتخابية (مزحة )أمريكيّة جديدة ومعهودة. ولاعتبار أن أوربا كلها ومجموعة "البريكس " استفادت من الاتفاقية إقتصاديا وتجاريا،فهي لن تترك اللاعب الأمريكي لوحده يحدد الموقف النهائي من ايران وشكل التعامل الاقتصادي معها وتسليط شتّى العقوبات ضدها، وهنا سيبدأ الصراع على النفوذ والتمدد الاقتصادي في كل تلك الربوع خاصة بعد بروز ال"بريكس "المزاحم الاقتصادي القوي والجديد في منطقة آسيا وإفريقيا ،وهذا الاعتبار لا بدّ أن يكون مرجعا لنا في تحليلاتنا ومعطى قوي نستلهمه منه في فهم وتحديد مخرجات السياسة الدولية والعالمية ، ولا بد من فهم قوة المارد الاقتصادي الجديد وبالتالي السياسي الذي أصبح محطّ الصراع الدولي الخفي أو الحرب الاقتصاديّة الدولية الباردة أو مناط ومربط الفرص في فهم صراع الشركات الجشعة العابرة للقارات والتي أصبحت تحرّك الدول والحكومات وتتحكم في الانتخابات من أجل كسب مواطئ قدم جديدة فوق جغرافيا الكرة الأرضية التي أصبحت في نظرهم قرية يتحكمون في خيراتها ومقدرات شعوبها انطلاقا من قوة رأس مالهم وانطلاقا أيضاً من فلسفة الهيمنة ومقولات ومبررات قيم العولمة الجديدة التي عولبت عقول الساسة المحليين والدوليين واختصرت المسافات وشرْعَنَتْ سرقة الخيرات باعتماد القانون والشِّرْعَة الدولية .
موقف ترامب من النظام المصري والسيسي: المؤكد أن الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي قد حصل على احترام ترامب أثناء لقائه به على هامش انعقاد جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذات الوقت الذي لاقى فيه إهانة وعدم اهتمام من الرئيس المغادر أوباما، فقد وعد ترامب السيسي بتعزيز العلاقة مع مصر في حال أصبح رئيساً لأمريكا وانتقد سياسة غريمه وخصمه تجاه حركة “الاخوان المسلمين” ولا أعتقد أن هذا الموقف سيتغير من طرف الإدارة الأمريكية في عهدة "ترامب" لأنها تتعامل مع الواقع ضمن مصالحها ومصالح شعبها ولا تتعامل بالمبادئ ضمن تخليق واقع جديد في البلدان .
فالإخوان أزيحوا من الحكم وتمّ التطبيع الدولي مع الحكم والوضع الجديد وترامب الآن لا يجدُ لهم أثرا فيه في المستقبل القريب ، وبالتالي لن يتعامل معهم لا بالسلب ولا بالإيجاب ، وسيبحث قدر الإمكان على تدعيم أواصر حكم عبد الفتاح السيسي من أجل محاصرة روسيا والصين والتقليص من حجم تواجدهما فيها وسحب البساط منهما والنفاذ إلى منطقة السودان والجنوب الإفريقي من خلالها وذلك بعد انفراط عقد التوغل الاقتصادي الأمريكي من خلال الجنوب الجزائري، باعتبار إحكام اختراق الصين اقتصاديا وتجاريا لهذه الربوع حاليّا بسبب توجّس النظام الجزائري من المؤامرة الأمريكيّة التي كانت تطبخ على مهل للنيل من استقرار الجزائر، كما أنه سيدعم نظام السيسي وحليفه في ليبيا حتى يستنفذوا القوى الليبية المناهضة للأمريكان وحتى يُجْهِزوا على ما تبقى من دواعش هناك ليتمّ لهم وضع اليد كاملة على التراب الليبي والخيرات الليبية والقرار الليبي المستقبلي .
الموقف من الصين :لا يمكن فهم موقف ترامب من الصين إلا من خلال فهم الموقف من ال "بريكس" لأن الصين دخلت منتدى الفعل الدولي السياسي والاقتصادي والتجاري القوي والحاسم من خلال مجموعة ال"بريكس"
وقد أبدى ترامب اعتراضا قويا على إغراق بضائعها للأسواق الامريكية ونعرف جيدا أن الصين لا تلتزم باتفاقيات التجارة الدولية وتغرق الأسواق العالمية بسلعها ولا يمكن لأي دولة في العالم بما فيها أمريكا من النجاح في استخدام سلاح مواجهة تقليص منافسة هذه البضائع لنظيراتها الامريكية من خلال فرض ضرائب عليها .
الموقف من أوربا .
يبدو أن ترامب يستهدف أوربا بمزيد الإضعاف ويدفع ببريطانيا لاستكمال خطوات انسحابها الكامل من الاتحاد الأوربي للإرتماء في أحضان الفارس الأمريكي وهذا يقود بالضرورة تشكيل وعي جديد في المملكة المتحدة للدفع نحو فوز حزب العمال برئاسة جيريمي كوربين، بالانتخابات المقبلة، الامر الذي سيؤدي الى زلزال سياسي في "أعرق الديمقراطيات" سواء في أوربا أو في الدول التقليدية التابعة لها وبصفة خاصة في دول الخليج التي تتعرض شعوبها لأبشع أشكال الاضطهاد وأنواعه وهو ما قد يُتيح تغييرات جذرية في أنظمة الحكم فيها وإنهاء العلاقات المهينة بين حكومات الغرب وأنظمة القمع والاستبداد الخليجيّة . كما أن صعود ترامب سيكون حتما بداية تداعي الأنظمة الدكتاتورية في منطقة الخليج من خلال العراب البريطاني الحليف الاستراتيجي المستقبلي للسياسة الأمريكية" الترمبويّة"(نسبة لترامب ).
الموقف من تركيا : رغم تذويب الجليد بين النظام التركي مع ساكن البيت الأبيض الجديد إلا أن ترامب لن يغفر لأردوغان انخراطه في دعم الارهاب والدواعش في منطقة الشرق الأوسط ونظرا للعداء المُقنّع للإدارة الأمريكية في فترة الديمقراطيين وشبهة انخراطها في الانقلاب على حكم أردوغان إلا أن الأتراك سيعملون على إرضاء ترامب والقبول بكل شروطه في المسألة الكردية أو في الصراع في سوريا والعراق وتقليم أظافره ووقف نزوع التوسّع الذي تطلّع إليه في السنوات الأخيرة، وسيتجهدون في إعادته إلى مستوى حجمه التقليدي ورغم عقده لاتفاقيات ومعاهدات وتطبيع مع الكيان الصهيوني إلا أن ذلك لن يمنع ترامب من محاصرة النفوذ الإخواني والإسلاموي لأردوغان ، وتركه تحت نير الخوف وتحت طائلة ردّة فعل أمريكيّة غير متوقعة .
الموقف من أمريكا اللاتينية : بعد انفراط عقد بعض دول أمريكا اللاتينية والتوجه اليساري لبعضها وانتماء البرازيل لمجموعة ال"بريكس" لم تجد الإدارة الأمريكية القديمة إلا خيار إثارة القلاقل فيها لحرمانها من الانخراط في الجبهة اليساريّة التقليدية وتأسيسي حلف مواجهاتي قويّ ونعتقد أن ترامب سيُكمل هذا التوجه ويرسخه ويعمّق الكره بين الأمريكان في ما بينهم سودا وبيضا وبين الجهات والولايات وبين الفقراء والأغنياء وبين الأمريكيين أنفسهم من جهة والمكسيكيين وسكان أمريكا اللاتينية والمهاجرين من جهة أخرى .