القول بأننا على وشك حرب عالمية ثالثة هو كلام فارغ وانما هي حرب «مكر» يخوضها بوتين - وهو الذي أعلنها - ويدرك ان أمريكا لن تغامر بتحريك قواتها وأن أقصى ما لديها عقوبات اقتصادية ومالية لن يكون لها تأثير كبير على روسيا خاصة مع وجود الدعم والاسناد الصيني... وبوتين - بدوره - لا يرغب في هذه الحرب ولا في اصطدام فعلي مع القوات الامريكية وإنما هو يسعى إلى تحقيق مكاسب أساسية من غزوه لأوكرانيا وذلك بتحويلها الى بلد منزوع السلاح مع انهاء رغبتها في الانضمام الى حلف شمال الاطلسي... فبوتين... والروس - عموما - إنما يعتبرون «أوكرانيا» منطقة ملحقة بروسيا وهي نتاج الثورة البلشفية وحاضنة الكنيسة الارثودوكسية الروسية لذلك تحتل «أوكرانيا» مكانة خاصة لدى القيصر ولدى الروس عامة وبالتالي فإن اقترابها من أوروبا وقبولها للمساعدة العسكرية الامريكية ورغبتها في الانضمام الى حلف شمال الاطلسي كلّها عناوين «خيانة» لروسيا القيصرية وهي خيانة تستدعي «الردع» بالقوة العسكرية...
«روسيا لغز يلفه الغموض داخل أحجية» هكذا يصفها الملاحظون وقد ازدادت غموضا وقوة منذ دخل بوتين على خط السلطة أي منذ تسلمه رئاسة الوزراء سنة 1999 ثم رئيسا لروسيا بعد «نهاية» بوريس يلتسين وهو يضع العالم اليوم أمام سيناريوهات «قيامية» بل هو يهدد العالم «بحرب ثالثة» بغزوه لأوكرانيا ولا أحد يعلم من القوى العظمى «نوايا بوتين الحقيقية» لكنها تعلم ان الرجل بصدد رسم عالم جديد على مزاجه يعيد فيه «لروسيا القيصرية» مجد الاتحاد قبل تفكيكه... وهو بالفعل بصدد رسم موقع جديد «لروسيا البوتينية العظمى»...
عندما أوشكت سوريا بشار الأسد على السقوط وفي اللحظة التي أعلنت فيها الادارة الأمريكية عن اقتراب انهيار «دولة بشار الأسد».. تدخل «روسيا البوتينية» على الخط وتخرج ـ كما لا أحد توقع ـ من منطقة المتفرج لتعلن وقوفها الكامل مع نظام بشار الأسد بالتدخل المباشر على أرض المعركة وأفرغت له الأرض ـ بالفعل ـ من الميليشيات والمرتزقة وشتتت التنظيمات الارهابية وأرغمتها على التراجع وانقذت بذلك بشار الأسد من سقوط كان منتظرا ومحققا.. ولم يكن هدف بوتين من العملية انقاذ نظام بشار الأسد ـ فحسب ـ وإنما ـ ايضا ـ وهذا اساسي ـ إضعاف التواجد الأمريكي في منطقتي الخليج والشرق الأوسط وقد انفردت بهما أمريكا وهي تعتبر منطقة الخليج خاصة منطقتها الحصرية ما اعتبرته روسيا البوتينية غير عادل وغير موضوعي وقد أشار بوتين الى ذلك بقوله بأن «روسيا تريد ان تكون شريكا لامريكا لكننا نشعر ان امريكا تعاملنا كضيف غير مدعو الى المأدبة..» والمأدبة هي ـ بطبيعة الحال ـ منطقة الخليج بثرواتها النفطية خاصة...
ويمضي بوتين اليوم في نفس سياساته التي أعلن عنها في مؤتمر مونيخ للأمن سنة 2007 وهي سياسات ترفض ترسيخ مقولة بأن امريكا هي «شرطي العالم» وتحويل ذلك الى أمر واقع وهو ما ذكره ـ ضمنيا ـ في كلمته في افتتاح أشغال مؤتمر مونيخ للأمن بقوله : «أمريكا تميل الى عالم وحيد القطب بمركز واحد للسلطة والقوة والقرار وهذا غير مقبول وغير ممكن..» وإعلانه الحرب على أوكرانيا إنما هو من باب «تصفية الحسابات» مع أمريكا التي تسعى الى استدراج روسيا الى الفضاء الأوروبي في حين يصرّ بوتين ويعمل على ان تكون روسيا النووية «القطب الأكبر» في مواجهته للامتداد الأوروبي والامريكي في المنطقة. وخاصة في البلدان التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي ومن بينها أوكرانيا والتي خالفت أو خرقت الاتفاق الدولي الذي تمّ على اثره تفكيك الاتحاد السوفياتي ومن شروطه أن لا تنخرط الجمهوريات المستقلة في أيّ عدوان على روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي وأن لا تسمح باحتضان قوات الناتو على أراضيها ومنع أي امتداد له على حدود روسيا... إلاّ أنّ أوكرانيا ولتعزيز قوتها العسكرية في مواجهة «الانفصاليين» عززت علاقتها بالدول الغربية وخاصة أمريكا وذلك بتلقيها ترسانة من الاسلحة اضافة الى اعلانها عن رغبتها في الانضمام الى حلف شمال الاطلسي ما ترفضه روسيا بحدّة وبوضوح بل تعتبر أنّ حفظ السلام في المنطقة إنّما هو مرتهن الى شرطين أساسيين أكدهما «بوتين» في كلمته الأخيرة... أوّلا تحويل أوكرانيا الى منطقة منزوعة السلاح بعدما سمحت لنفسها بتلقّي مساعدات عسكرية من أمريكا وثانيا أن تعلن «أوكرانيا» عن تخليها ـ نهائيا ـ عن رغبتها في الانضمام الى حلف شمال الاطلسي وما عدا ذلك ـ كما أشار بوتين في كلمته فإنّ الجيش الروسي سيقتحم الأراضي الأوكرانية لدعم الانفصاليين وقد أعلن ـ بالفعل ـ اعتراف روسيا باستقلال منطقتي «لوغانسك» و«دونيتسك» الانفصاليتين ووضعهما تحت الحماية الروسية المباشرة.
لطفي العربي السنوسي