لم يكن هناك اختلافٌ حول أهمية البرلمان بوصفه سلطة قائمة بذاتها مستقلّة عن غيرها من السلطات، ودوره المركزي في تمثيل الشعب والتعبير عن إرادته وسنّ القوانين وتشكيل الحكومات التي تضع السياسات ومراقبتها باسمه. وفي محاضرةٍ ألقاها قيس سعيّد، الأستاذ والباحث الجامعي في القانون، بعنوان "فكرة البرلمان في تونس" ضمن أشغال اليوم الدراسي السادس في 22 مارس/ آذار 2006، بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال تونس حول "المؤسسة النيابية ودورها في تكريس الاستقلال" الذي نظّمه مكتب البحوث والدراسات البرلمانية بمجلس النواب، ونُشرت في السنة نفسها في العدد السادس من سلسلة دراسات برلمانية، توقف سعيّد عند دخول الفكرة البرلمانية تونس، وبيّن كيف "كانت في البداية حلما ناضل بهدف تحقيقه، عدد كبير من دعاة الإصلاح. قبل أن تصبح مطلبا شعبيا سقط في سبيله عشرات الشهداء". وذكّر سعيّد، في مقالته، بالموقف الراديكالي لمحمد باش حانبه، أحد قادة حركة الشباب التونسي والحزب الحر الدستوري التونسي الذي أرسل رسالة إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي، مؤرّخة في 30 جوان (يونيو/ حزيران) 1920 يقول له فيها "إنني لا أقبل أي تغيير في المبادئ التي تبنيتها أي استقلال تام وتغيير لهياكل الحكومة (إلغاء الملوكية وتأليف حكومة يعينها مجلس ينتخبه جميع سكان البلاد)". وانتهى سعيّد إلى الإقرار بأنه في انتخاب المجلس القومي التأسيسي سنة 1956 ومجلس الأمة في 1959 "التقت الشورى في تونس مع فكرة البرلمان ومعها فكرة الاقتراع العام والتقت في لوح صناديق الاقتراع إرادة عموم الناخبين في الأرض مع التعاليم المحفوظة في لوح السماء"، حسب صريح قوله.
والواقع أن سعيّد، الباحث الجامعي الذي شرح تطور فكرة البرلمان، منذ تقمصتها النخب التونسية منتصف القرن التاسع عشر إلى أن تجسّدت على الأرض وأصبحت حقيقة ملموسة مع منتصف القرن العشرين، أي بعد قرن، أضفى على وجود البرلمان مسحةً دينيةً وأعطاه نوعا من القدسية الربّانية، فضلا عما يتمتّع به، حسب اعتقاده، من قيمة وضعية - دستورية كرّسها دستور 1959 على قاعدة مبادئ الحركة الوطنية، ثم سيواصل الالتزام بها دستور الثورة التونسية لسنة 2014 استجابة منه لمطالب تلك الثورة السياسية (الديمقراطية) والاجتماعية (الحقوق والعدالة والمساواة).
ولم يقلل من أهمية التجربة النيابية التأسيسية من خلال المجلس القومي التأسيسي (1956-1959) والمجلس الوطني التأسيسي (2011-2014) ونظيراتها البرلمانية (1959-2011) و(2014 -2021)، ما علق بها من شوائب التزوير في فترتي حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي المشار إليها في كتابي محمد مزالي "نصيبي من الحقيقة" والهادي التيمومي "خدعة الاستبداد الناعم في تونس"، وتأثيرات المال السياسي الفاسد بعد الثورة التونسية (تقارير دائرة ومحكمة المحاسبات)، فما زالت النصوص المؤسسة ومختلف القوانين والتشريعات الصادرة عن المؤسسة النيابية تُعتمد لتنظيم الحياة العامة ويلتزم الأفراد والهيئات باحترامها، ويصدر القضاء أحكامه بناء على محتوياتها ومضامينها.
ولقد شكّلت النصوص القانونية الغزيرة التي وضعتها المجالس النيابية التونسية المتعاقبة على مدى 65 سنة مادّة تُلقن لطلبة الكليات القانونية وغيرها من الاختصاصات الجامعية، بما في ذلك الدرس الذي كان يلقيه الرئيس قيس سعيد ثلاثين سنة قبل ولايته الرئاسية، من دون التوقف على الظروف التي يعيشها النواب وعلاقتهم ببعضهم بعضا وروابطهم مع الرؤساء والحكومات ومدى انضباطهم في أداء مهامهم النيابية وطبيعة الأنظمة السياسية التي سُنّت في ظلها بقطع النظر عن استبدادها أو ديمقراطيتها، فقد أضافت المادة القانونية الدسمة التي أصدرتها البرلمانات إلى قوّتها القانونية شرعية علمية، وضعت مدرّسي القانون وطلبته وشارحيه ومؤوّليه وغيرهم من المشتغلين بحقوله المختلفة والمتنوعة في مرتبةٍ تكاد تضاهي رتبة من انتخبهم الشعب لوضع القانون، فللمجالس التشريعية أفضال كثيرة على علماء القانون ودارسيه، حتى أن وجودهم العلمي والتعليمي يستمدّ من فكرة التمثيلية النيابية وما تضعه المجالس المنبثقة عنها من قوانين وتشريعات.
ولكن لا أحد من نواب المجالس التأسيسية والتشريعية ممن وضعوا دستور 1959 أو نقّحوه أو ممن صاغوا دستور 2014، أو ممن استؤنس برأيه من رجال القانون وفطاحله وكبار أساتذته، كان يعتقد أن الفصل عدد 32 (أصبح بعد التنقيحات عدد 46) من الدستور الذي وضعه المجلس التأسيسي الأول، أو الفصل عدد 80 من الدستور الذي وضعه المجلس التأسيسي الثاني، وكلاهما يتحدّث عن الخطر الداهم سيطبق على البرلمان الذي انتخبه الشعب ليكون عاكسا لفسيفسائه الفكرية والسياسية ومختلف شرائحه الاجتماعية، وستكون دار القانون وقلعته التاريخية وحصنه الذي يصعب اختراقه من الداخل، سيكون ضحية لذلك الفصل الدستوري، حتى أن كلا الفصلين استعملا عبارة "لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس النواب"، وأضاف الفصل عدد 80 " ويعتبر مجلس النواب في حالة انعقاد دائم". فقد اعتاد رجال الدولة والسياسة والقانون ومختلف النخب على أن الأخطار الحقيقية التي تهدّد الدول لا تأتي أبدا من داخل مؤسسات الدولة المدنية، وإنما هي نتاج أعمال مسلحة أو احتجاجات وانتفاضات شعبية، كالتي عرفتها تونس في مناسبات عدة، يُشار منها إلى المحاولة الانقلابية سنة 1962 والانتفاضتين، النقابية والشعبية، سنتي 1978 و1984 وعملية قفصة المسلحة سنة 1980، وكلها جرت في زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، والصدام العنيف للرئيس بن علي مع الإسلاميين سنة 1991، وانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، والثورة التونسية 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010- 14 يناير/ كانون الثاني) 2011 التي أنهت سلطته، ثم الاعتداءات الإرهابية المسلحة في أثناء حكم الرئيس الباجي قائد السبسي التي استهدفت متحف باردو وسوسة وحافلة الأمن الرئاسي سنة 2015 وعملية بنقردان، لبعث إمارة داعشية سنة 2016.
وعلى الرغم من هذه المحاولات الحقيقية الهادفة إلى تبديل هيئة الدولة وإسقاط النظام، وحتى تفكيك الدولة لتحلّ محلها "الإمارة الإسلامية"، والتي كثيرا ما يعاقب مرتكبوها بأحكام ثقيلة، فلا أحد من الرؤساء المذكورين اعتبر تلك الأحداث بمثابة الأخطار الداهمة التي تستدعي تفعيل الدستور، وهذا ما يجعل تطبيق فصل الخطر الداهم على البرلمان مقارنةً بتلك الأحداث الخطيرة لا يخلو من عسف وإنطاق الفصل عدد 80 من الدستور بما لا ينطق.
وهذا العسف لا يمسّ البرلمان مؤسسة فقط وإنما يستهدف النواب أفرادا في حقوقهم الإنسانية بعدم تمكينهم من حقهم في العلاج ومن أجورهم لتغطية نفقات عائلاتهم، ما يجعلهم عرضةً للتفقير والتجويع، وفي الوقت نفسه، الامتناع عن إرجاعهم إلى وظائفهم الأصلية في الوظيفة العمومية. وقد يطاول العسف أيضا البناية التاريخية لمجلس نواب الشعب المحرومة من الصيانة منذ 25 يوليو/ تموز 2021، التي شكلت مركز السلطة في تونس منذ حكم السلطان الحفصي أبو فارس عبد العزيز المتوكل 1394-1434 ولحقبات تاريخية طويلة، ولكنها تحوّلت إلى محجّ للتعبير عن الإرادة الشعبية بعد 2011 (مقال ساحة باردو لعميرة علية الصغير ضمن كتاب مواقع الذاكرة الوطنية تونس 1881-2014).
ومن الصعب بعد هذا الجرد التاريخي والسياسي الاقتناع بأن البرلمان التونسي شكّل خطرا داهما على الدولة، ما يستدعي تعليق أعماله وتجميد نوابه. وقد تكون هذه الدورة البرلمانية المنبثقة عن انتخابات 2019 أفضت إلى نقل الصراع التاريخي بين الدستوريين والإسلاميين إلى البرلمان، ومن ثمّة تدميره سياسيا ورمزيا نتيجة ذلك النزاع الذي لا تحتمله "إيطيقا" السياسة، لكن ذلك لا يمكن أن يُعالج بإلغاء الحياة الديمقراطية وتجميد المؤسسة النيابية ومن ورائها الأحزاب السياسية وحقها في ممارسة الحكم وقتل السياسة وإلغاء كل أشكال الرقابة على السلطة التنفيذية وتجميع رئيس الجمهورية السلطات واحتكارها، وتحويل التدابير الاستثنائية إلى وضع دائم الاستمرارية، فذلك هو الاستبداد، حتى وإن لم يسمّ باسمه.
علاج أزمة البرلمان، والانسداد السياسي الخطير وما له من انعكاساتٍ اقتصادية واجتماعية، هو في حلّ مجلس نواب الشعب، والإعلان عن موعد الانتخابات الجديدة، وذلك درءا لكل الظنون والشبهات، فلا يمكن للرئيس قيس سعيّد أن يختزل الدولة، والتي هي مشترك كل التونسيين، في ذاته مهما علت عبقريته أو تعاظمت شعبيته، فيستبطن مقولة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر "أنا الدولة والدولة أنا"، أو قول الحبيب بورقيبة وهو يخاطب العمال التونسيون في الخارج قائلا "إذا سئلتم عن بلدكم الأصلي قولوا نحن من بلاد بورقيبة"، فهو يعتقد أن تونس معروفة به وليس العكس، حسب ما ذكره منصف وناس في كتاب "الدولة والمسألة الثقافية في المغرب العربي"، فذلك زمنٌ قد ولّى وانتهى عهده.
د. سالم لبيض