لقد تنصلكم من مسؤولية "الفشل"، وتساءلتم عن التباطؤ الذي أخر تعافي المنظومة الصحية التي أصابها المرض منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وعن تردد أصحاب المسؤولية لما يزيد عن العام والنصف دون أن يفعلوا شيئا، فأين كنتم يا سيادة الرئيس؟ لماذا لم تتدخلوا بما يخوله لكم الدستور؟ لقد فعلتم ما فعله الجبالي من قبلكم لما سأل "أين الحكومة"؟ وهو رئيسها. تساءلتم مثله لأنكم ترشحتم للرئاسة دون أن يكون لكم برنامج، ورفضتم بأن تتجاوزوا هذه الخطيئة إلى اليوم. ولو كان لكم برنامج إصلاحي شامل لمعالجة الدمار الذي أحدثته الخيارات النبوليبرالية المملاة من قبل صندوق النقد الدولي تاذي تتبناه وتدافع عنه الأحزاب الحاكمة لأصلحتم المنظومة الصحية ولكنا اليوم نتحدث عن نتائج إيجابية بدل "الدعاء" لها بالتعافي. تساءلتم مثله لأنكم كنتم مشغولين بالصراع السياسي الذي قابلكم برئيس مجلس النواب حول من يحكم؟ وبالصراع مع رئيس الحكومة حول مجلات السلطة التنفيذية لرأسيها، وغيرها من الصراعات التي لا علاقة لها ببرنامج الإصلاح الشامل لأجهزة الدولة ومؤسسات الجمهورية وإدارتها ومنظومتها القانونية على أساس ديمقراطي ومرجعة الخيارات التنموية في إطار اجتماعي تضامني بمضمون وطني.
السيد الرئيس أنتم رأس السلطة التنفيذية، بحيث كان بإمكانكم تفادي هذه المصائب التي حلّت بنا لو بحثم عن حدّ أدنى من التفاهم مع رئيس الحكومة حول كل الخلافات التي ظهرت بينكما. وهو شيء لم تقوموا به وبذلك فأنتم من يتحمل المسؤولية الأولى في الفشل، أحببتم أم كرهتم، باعتباركم رئيس الدولة. وزيادة على ذلك فأنتم من أتى بالمشيشي للرئاسة ثمّ مرره في حكومة الفخفاخ لوزارة الداخلية، ومن ثمّة عينتموه رئيسا للحكومة. ظهرت التوترات الأولى حول تركيبة الحكومة لتتحوّل إلى صراع مفتوح معه وطلبتم إقالته، ثمّ إلى صراع مفتوح مع حركة النهضة وحلفائهم حول أزمة الحكم. وبمثل هذا الفعل قبلتم بأن تتركوه يدخل تحت مظلة الغنوشي، لأنكم ظننتم أن الحرب ضده تصبح أسهل. لكن ذلك لا يبرئه من المسؤولية بل يتحمل المسؤولية الأولى مثلكم، باعتباره رئيس الحكومة. ومسؤوليته تكبر أكثر لأنه لعب على الخلافات بين الرئاسة ورئاسة البرلمان ليحافظ على موقعه والمصالح السياسية والاقتصادية العالمية والمحلية التي يمثلها، زيادة على قرارته الخرقاء في مواجهة الكوفيد وغيرها.
أعود إلى حديثكم في المنزه، إذ كنتم صرّحتم بأن المساعدات التي أتت كانت موجهة لكم لحسن التصرف فيها. وأكدتم بأنه على أساس ذلك كلفتم المؤسسة العسكرية بهذه المهمة. فأين الدولة الواحدة؟ وأين هو احترام المؤسسات؟ اسمحوا لي السيد الرئيس بالجزم بأن من ذكروا على مسمعكم أو أمامكم مثل هذا القول هم من دول ليست بالشقيقة ولا بالصديقة، لأنه قول يعتبر إهانة للدولة التونسية وتدخلا في شؤونها الداخلية، وإهانة لكم باعتباركم رئيس دولة فاشلة أو فاسدة، والأخطر أنهم يحاولون دفعنا ضد بعضنا البعض بالإيحاء أنهم يدعموا جانبكم وجانب المؤسسة العسكرية ضد من؟ بطبيعة الحال ضد الدولة التي أنتم رئيسها، وهو لعمري دعوة مفضوحة للانقلاب على مؤسساتها، أليس كذلك؟
كان من الأجدر بكم أن تردوا بقول يشبه على الأقل ما رددتم به على أردوغان لمّا تطاول عليكم في قصر قرطاج، وأن تؤكدوا "من جديد" "بأن الدولة واحدة" و"لا وجود لدول داخل الدولة" وبأنكم تحترموا مسؤوليات الحكومة وتراقبوها، باعتبار مسؤوليتكم التي تمكنكم من حق الرقابة والسهر على متابعة التنفيذ، إذ بإمكانكم حضور جميع مجالس الوزراء بحسب الدستور.
وقبل أن أطوي هذا الموضوع أود أن أذكركم بالمرأة التي أكدت لكم بأن "الشعب معاك سيد الرئيس" و"أن الشعب ما عادش ينجم" و"أنا ما عيدتش" و"مش نكون معاك في 25 جويلية". فكما تعلمون أن دعوة 25 جويلية هي تحت شعار "ارحل يا مشيشي" و"كنس المنظومة"، ألا ترون مخاطر الانزلاق فيما سمعتم وتابعتم على الفايسبوك؟ ألا ترون أن المجهول يختلج بين ظهراني المجتمع؟ لذلك لم أنفك عن الدعوة بضرورة تخفيف حدّة الاحتقان وبصورة خاصة في خطاباتكم التي يأخذها الشعب مأخذ الجد. وما تعبرون عنه بالغموض يؤوله حسب هواه وحسب المصالح المطروحة في الميزان.
أما الموضوع الثاني فيتعلق بمسألة التوظيف السياسي للأزمة الصحية واللوبيات، وتمنيتم الشفاء لأصحابه. ثم أضفتم فيما بعد بأننا لا نواجه فيروس الكوفيد فقط بل نواجه فيروسات السياسة وفي مواقع أخرى خصصتم بمثل هذا القول السياسيين والأحزاب السياسية. وهو قول يحيلنا على تجارب وقواميس لا علاقة بالحريات والنظم الديمقراطية، لأنها ترمي بأصحاب الرأي وبالسياسيين والأحزاب السياسية في سلة المرضى العقليين ليدخلوا "المورستانات" أو من ذوي العدوى الذين لا يمكن شفاءهم وينبغي عزلهم وآخرون يمكن علاجهم بالمضادات الحيوية، ممّا يفتح ألف مليون احتمال. وما بالكم إذا اعتبرتهم فيروسات، مثل الكوفيد أو الإيبولا، التي لا يمكن الخلاص منها إلا بإبادتها بإجراءات التوقي واللقاح والدواء. وبهذا الشكل ندخل السياسة بأفكار عامية وبمقاربات بيولوجية مبهمة تفرض علينا السباحة في عالم الدكتاتورية والاستبداد والفاشية. إن السياسة يا سيادة الرئيس، سياسات واحدة تدافع عن الشعب العامل والثانية عن أصحاب رأس المال، واحدة قائمة على أيديولوجية الإيخاء الإنساني والتضامن والتعاون والحلم بتحرير الإنسانية من الاستغلال والاضطهاد بكل أشكالهما، بينما الأخرى تدافع عن المصالح الضيّقة والأنانية ولا تتردد في استعباد الإنسان واستغلاله بأبشع الأشكال وتفرض عليه إرادة أصحاب المصالح بالالتجاء إلى الاستعمار والعنصرية والتصفيات العرقية والعقائدية، واتباع نهج "الغاية تبرر الوسيلة". وعلى هذا الأساس نجد سياسة مبدئية قائمة على القيم والمبادئ الراقية، كما نجد سياسة انتهازية نفعية مكبافيلية، لهما الحق في الوجود على أساس الحرية والديمقراطية. والفيصل بينها هو أن الدولة الديمقراطية تكون الحامية للحريات من كل تعد، يمكن أن تقوم به القوى صاحبة المشاريع الاستبدادية والدكتاتورية والفاشية. إن الأحزاب والقوانين والمؤسسات هي أساس النظام الجمهوري الديمقراطي، ودون أحزاب لا يمكن الحديث عن الديمقراطي وعن الحرية، ولا أعتقد أن كثرة الأحزاب والصراعات حول كل القضايا والمسائل يمكن معالجتها بشعار "من تحزب خان" وتصفية الوجود الحزبي بالقمع والتصفية بل بالحرية والديمقراطية في إطار قوانين ومؤسسات النظام الجمهوري.
ولا تطنن سيادة الرئيس أن "المستقل" لا سياسة له، بل هو صاحب سياسة، غالبا ما يكون بها منحازا للقوى توفّر مقعدا أينما كان. وبإمكانه تغيير مواقعه حيثما شاء، باسم مناهضة الجمود والحزبية الضيقة وكأنه يدافع عن مصالح أشمل من مصالحه الخاصة في آخر المطاف.
فالديمقراطية لمّا تتأسس على الحرية تمكن الشعب كسب المناعة الضرورية لكي يحيى متحصنا بالوعي الجمهوري الديمقراطي من مخاطر الارتداد الاجتماعي ومن مخاطر انتصاب الدكتاتورية والاستبداد والفاشية باسم الشعب (الشعبوية) أو باسم الدين (الإسلام السياسي) أو باسم الحداثة والانضباط والنظام (الدكتاتوريات العسكرية أو الحزبية في النظم الكليانية).
لذلك رجاء لا تتركوا الجملة والكلمة تسيطر عليكم باعتباركم مطالبون بأن تزنوا كل قرار أو موقف تعبرون عنه. وهي خبرة تكتسب بالتعلم والتجربة. وبإمكانكم الحصول عليها إذا قبلتم أن تأخذوا مقعدا لكم باعتباركم تلميذا يتلقى دروسا مكثفة في كيف يكون رئيس دولة. ولكل باب السيد الرئيس مختصوه وبإمكانكم الاستعانة بهذه الملكات مع التمسك بآرائكم الخاصة.
محمد الكيلاني