كانت الحكومات قد واجهت الشعب والقوى الديمقراطية بمثل هذه الأساليب لأنها اختارت الحلول الأمنية في سعيها لفرض خياراتها التنموية الليبرالية المتوحشة ولم تقبل مراجعتها في إطار منوال تنمية ومخطط للنهوض الاقتصادي والاجتماعي للخروج بالبلاد من الأزمة التي تواجهها لما يزيد عن عقد من الزمن، ولم تسعى لتلبية المطالب الملحة للجهات المحرومة في التنمية وللجماهير المتضررة من الخيارات النيوليبيرالية ومن الأزمة التي ولدتها.
وبالمقابل قبلت الحكومات المتعاقبة التفاوض مع "التنسيقيات" التي تحرّك البعض منها أيادي خفيّة لها مصلحة في "تسكير الفانات" وإيقاف إنتاج الفسفاط ونقله وتعطيل إنتاج "الأمونيتر" وإجبار الدولة على توريد الفسفاط لتشغيل الصناعية الكيمياوية وإيقاف إنتاج الغاز السائل وتوزيعه.
ومحاولة من المنظومة القديمة استرجاع أنفاسها وترميم الضرر الفادح الذي كان قد لحقها، عملت على "تصليب" أجهزة الدولة في تعاملها مع الشعب بتغذية الروح الانتقامية في نفوس أتباعها وانتظار اللحظة المناسبة التي يعود فيها ممثلوها السياسيين إلى الحكم كي تنهض بكل قواها من جديد لتشن هجوما ساحقا على خصومها وعلى المجتمع من أجل إخضاعه.
ويبقى القوى المؤهلة أكثر من غيرها "لتصليب" أجهزة الدولة، هي القوى صاحبة المشاريع الاستبدادية باسم الدين التي وصلت إلى السلطة والتي لا تقبل بالديمقراطية إلا بصفتها وسيلة لأسلمة الدولة والمجتمع، باعتبار أن استراتيجيتها تهدف لا فقط إلى المسك بمفاصل الدولة بل إلى بسط نفوذها على كافة أجهزتها. ممّا يجعلها تعمل بشكل منهجي للضغط على الدولة والمجتمع عن طريق أذرعتها وميليشياتها وعلى بناء "سلطة موازية" داخل السلطة تمكنها من تحقيق "وضع اللادولة" الذي يسمح لها باتباع خطة "إدارة التوحش"، والشروع في بناء "أمن موازي" و"قضاء موازي" و"إدارة موازية"، عن طريق المسؤولين الذين تشترط فيهم "المولاة بدل الكفاءة" والمنتدبين الجدد من أتباع الحركة، وعن طريق "الاقتصاد الموازي" و"التراباندو"، أي التهريب الذي اعتمدته كافة حركات الإسلام السياسي لتمويل نفسها وأنشطتها ولشراء ضمائر الناس.
بمثل هذا الأسلوب تصبح أجهزة الدولة واقعة تحت نفوذ الأجهزة الموازية التي قد تتحول إلى قوة ضغط
جبارة تدفع بالدولة إلى الفاشية، وخاصة إذا وجدت قيادة سياسية متمثلة في أحزاب "انتقامية"، تعمل على الثأر لنفسها من الشعب والمجتمع بأسره ومن قواه الديمقراطية والتقدّمية، وصاحبة مشاريع دكتاتورية واستبدادية.
إنه من غير الممكن إيقاف الفاشية والدكتاتورية والاستبداد إلا ببناء قوة جمهورية متّحدة قادرة على أن تتشكل كبديل مباشر أمام الشعب الذي يرى فيها القوة المؤتمنة على الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية وعلى مصالحه المادية والمعنوية والوطنية. ذلك هو طريق خلاصنا وخلاص الشعب التونسي وخلاص الوطن التونسي.
محمد الكيلاني