النوم هو على فراش سمكه لا يتجاوز بضعة سنتيمترات، والغطاء الذي لم يتغير منذ عشرات السنين. أما الطعام، فرغم وفرته، فإنه لا يكاد يُسمن ولا يُغني من جوع. يبدأ توزيع الطعام الساعة الخامسة والنصف صباحاً، ثم يتم جمع الأواني بعد أكثر من نصف ساعة. وفي الثامنة تماماً تبدأ عملية أخذ الأسرى من زنازينهم إلى غرف التحقيق، وهنا تبدأ المعاناة النفسية الشديدة.
بالطبع ليس من السهل اختزال اللحظات والساعات والأيام، بل والشهور التي يقضيها الأسير في الزنازين بسطور قليلة. لكن تسجيل بعض الأمور قد يكون مفيداً، وقد يسهم في توصيل معاناة الأسرى إلى الناس. ففي هذه اللحظة، وفي كل لحظة، علينا أن نتذكر أنه يوجد في تلك الزنازين عشرات الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاماً، فضلاً عن الأطفال والفتيات.
في التحقيق يتم استخدام كل وسائل الضغط النفسي، وأحيانا الجسدي، بحث الأسير لجعله "يعترف". وأكاد أجزم أن نسبة عالية من الأسرى يعترفون بأمور لم يقوموا بها، فقط من أجل الخلاص من رعب "المسلخ". وهكذا، تصبح السجون مليئة بـ"الأبرياء" الذين يحاكمون بتهم باطلة. وبالطبع، فإن القاضي لن يتوانى عن إصدار الأحكام، مهما بلغت شدتها بحث هؤلاء بناء على الاعترافات التي وقع عليها المتهم. وحتى لو أنكر تلك الاعترافات لاحقاً، فإنه لن يكون بالإمكان التراجع عن الحكم.
تشعر أنها لعبة قذرة، لكنها في غاية المتعة بالنسبة للمحققين الذين يمارسون "براعتهم" بحق الشباب والفتيات الذين ليس لديهم أي خبرة أو فكرة عما يحدث. وتبلغ المتعة ذروتها عندما يحصل المحقق على اعتراف المتهم وتوقيعه على لائحة الاتهام. ورغم أن المحقق يدرك جيداً أن التهم باطلة، وأن المتهم وقع عليها فقط لكي يخرج من "المسلخ"، إلا أنه يخرج إلى رؤسائه منتشياً بما حققه من نجاح في القبض على "الإرهابي".
السطور تضيق ولا تتسع للحديث عن الكثير من التفاصيل التي تحيل ليل الأسير إلى كوابيس، ونهاره إلى حالة من التوتر الذي قد يصل به إلى ما يشبه حالة الجنون. فالسجن الانفرادي مثلاً، حكاية كاملة بحد ذاته. فالأسير يحس بكل ثانية وكأنها دهر، في ظل عدم وجود كتاب أو مصحف أو أي وسيلة اتصال.
وجهاز فحص الكذب أيضاً حكاية، حيث كل من يخضع لهذا الجهاز سوف يكون حتماً كاذباً، ويبقى كاذباً حتى يتحدث عن أمور حدثت وأخرى لم تحدث،
ويشعر المحقق أن الأسير لم يبق لديه ما يقوله، فيصبح عندها صادقاً، وتثبت عليه التهم التي تدينه كي يُسجن سنوات طويلة.
بعد كل هذه "اللعبة" يتم تحويل الأسير إلى السجن انتظاراً لمحاكمته. وطبعاً هناك قائمةبالأحكام، مثلاً: انتماء لتنظيم محظور 12 شهراً، نشاط عادي 6 أشهر، وهكذا.
ما أردت قوله هو أن الاعتقال والسجن والمحاكمة على أسس غير جنائية هي لعبة في غاية السوء واللاأخلاقية. هي لعبة لأنها تقوم على أدوات غريبة بعيدة عن المنطق، وجوهرها فقط هو الشك والأمن. وحتى تكتمل اللعبة لا بد أن يمر الأسير بـ"المسلخ" لكي يضع كل ما لديه، وكل ما ليس لديه، على الطاولة أمام المحقق.
المهم، كم مسلخ موجود في عالمنا "الثالث" في الوقت الراهن؟ وكم من الأسرى يُساقون إلى السلخ، جسدياً أو نفسياً؟
وفي الخارج، نعيش نحن حياة طبيعية، وكأنه لا يوجد بشرٌ يُسحقون في "مسالخ" الجلادين.
فريد أبو ضهير
محاضر وإعلامي فلسطيني