يعيد التقرير الأممي الأمور إلى نصابها؛ إسرائيل “دولة” احتلال واستيطان وكيان عنصريّ مقيت وهجين ينضوي أصالة صلب منظومة الدول الاستعمارية الاستيطانية الاستئصالية من تجربة جنوب أفريقيا سابقا إلى أستراليا حاضرا.
صحيح أنّ التقرير الأممي اغتيل من قبل “اليد الحمراء” الإسرائيلية، جنينا لم يتنفس بعد هواء العالم الملوّث وهواه السياسي المدنّس ولكنّ الأكيد أنّه أثبت أنّ جزءا من المنظومة الدولية والأممية يحظى بالحدّ الأدنى للنيل من إسرائيل وكشف وجهها الاستعماري والاستيطاني القبيح حتّى وإن لم يكن يتقاطع مع الرواية الصحيحة والصريحة عن إسرائيل كاستيطان احتلالي صنع كيانا رسميا لا كما تروّج إسرائيل لنفسها “دولة عادية” تستوطن أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فإنّ الحقيقة السياسية التي لابـدّ من التوقف عندها طويلا كامنة في أنّ غياب الوحدة الفلسطينية كجبهـة محليـة، والافتقـار العربي لاستراتيجية تعامل ومقاربة إدارة الصراع مـع إسرائيل كجبهـة إقليمية، يحولان دون الاستثمار الجيّد والتوظيف الذكي لتقرير الأسكوا لصالح القضية الفلسطينية.
وطالما أنّ الجبهة الفلسطينية الداخلية مختلة بفرط مأسسة الانقسام بين غزة والضفة، والجبهة العربية تعيش حالة من التخبط والتململ والاضطراب في التحالفات والمحاور، فإنّ تقرير الأسكوا لن يجد الأرضية الملائمة ولا البيئة المناسبة لتوظيفه صلب الحرب الدبلوماسية والقانونية والسياسية والاستراتيجية وحتّى العسكرية مع الكيان الإسرائيلي.
ولعلنا لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ التقرير لن يكون أفضل حالا من تقرير القاضي ريتشارد غولدستون حول حرب غزة 2008 والذي أثبت أنّ إسرائيل استهدفت القطاع بالأسلحة الفوسفورية وبالقنابل المحرمة دوليا. غير أنّ التقرير ذهب أدراج الرياح لا فقط لوجود فاعل أميركي يمنع الإدانة الحقيقية لإسرائيل في المحافل الدولية بل لأنّ الانقسام الفلسطيني والتشرذم العربي والإسـلامي يهدران ويفتتان ويستنزفان حالة التضامن الدوليّ، وهو ما حصل مع تقرير غولدستون.
نفس الأمر تقريبا حصل مع مخرجات مؤتمـر دربـان لمجابهة العنصـرية والاستعمـار في عـام 2001 بأفريقيـا الجنوبية، حيث أدان المؤتمر إسرائيل ووصف سياساتها بسياسات الفصل العنصري، وقد زادت مخرجات المؤتمر القضية الفلسطينية زخما سياسيا لا سيما وأنّه تقاطع في تلك الفترة مع انتفاضة القدس في 2000، إلا أنّ التهاون الفلسطيني الرسمي في إدانة إسرائيل واعتبارها شريكة فاعلة في عملية التسوية ساهما في ضياع هذا المكسب.
دون أن ننسى قرار اليونسكو الأخير في 13 أكتوبر 2016، حول اعتبار المسجد الأقصى تراثا إسلاميا خالصا نافيا بذلك أي علاقة ثقافية أو روحانية بين اليهود من جهة والمسجد الأقصى أو حائط البراق من جهة ثانية، وكان بالإمكان تفعيل هذا القرار سياسيا واستراتيجيا ضمن الشروط الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، طالما أنّ المفاوضات صارت قدرا على من يعتبرون أن “الحياة مفاوضات”، غير أنّ اللقاء الأخير بين الرئيس محمود عباس ومبعوث دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط تفادى مجرّد الخوض في هذه النقطة الجوهرية.
المفارقة الأكثر وجعا أنّ رئاسة السلطة الفلسطينيـة التي تركّز على الاستيطـان، وهي محقة في هذا الأمر، لاستئناف التفـاوض واصلت سياسة إضاعة الأوراق السياسية مفضلة عـدم التلويح بقـرار مجلـس الأمن رقم 2334 والمطالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي والذي يعتبر المستوطنات بناء غير شرعي وضاربا لأسس حل الدولتين.
في 1948، كان الفاعل الرسمي العربي، عبر بوابة الكرامة المهدورة، رافضا للقرارات الدوليـة وشاجبا لاحتلال الأرض الفلسطينية، في 1967 استحال الفاعل الرسمي العربي، من بوابة السلوان، قابلا بالقرارات الدولية منددا بالضم الإسرائيل للمزيد من الأراضي العربية، وفي 2017 باتت الأنظمة العربية من بوابة صائب عريقات، القائل إنّ “المفاوضات حياة”، نصف رافضة بالقرارات والتقارير الأممية المنددة بإسرائيل نصف قابلة باحتلال الأرض وبضمها أيضا… وتلك مصيبة أخرى.
الكاتب والمحلل سياسي أمين بن مسعود