حدث 14 يناير 2011.
ولئن كانت انتخابات 2011 تلبست برمزية تملك الثورة وادعاء أبوة الانتفاضة، وانتخابات 2014 برمزية إنقاذ الدولة من هواة السياسة، فإن جزءا كبيرا من انتخابات 2019 سيُبنى على رمزية استبدال الموجود الحزبي بمنشود هُلامي يستثمر في فشل الطبقة السياسية برمتها معارضة قبل حُكما.
تشتغل هذه الكيانات السياسية اللاقطة وفق ذات منطق الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونعني بالضبط رباعية سبر آراء الجمهور الاقتراعي، وصياغة وثيقة على شاكلة عقد اجتماعي وطني جديد، واستثمار الطرق الجديدة في التواصل على شاكلة شبكات التواصل الاجتماعي، وأخيرا الدفع بوجوه شبابية معروفة بعملها في المجتمع المدنيّ أو الأكاديميّ في السباق الانتخابي.
مثّل الصعود الصاروخي لحزب ماكرون “إلى الأمام” في فرنسا نموذجا للكثيرين من الطامحين للوصول إلى مقاليد السلطة في تونس. سيما وأنّ ماكرون طرح المُعادلة السياسية التي يبتغيها الكثير من الفاعلين السياسيين التونسيين، وهي القليل من التنظير والحدّ الأدنى من النضال الحزبي والكثير من الدعاية لإقناع جمهور مستعد للاستماع إلى صوت من خارج الصندوق.
فالاستثمار في خيبة الأمل من الطبقة السياسية الراهنة والتوظيف الذكي لحالة الفتور السياسيّ التي أصابت شرائح كثيرة من الشباب، لصالح مشروع انتخابي يتحدّث باسمهم ولا يتحدث عنهم، ويتطرق إليهم دون أن يطرح ويطرق آفاق الحلول، يبدو أنّه استحث جزءا من الفاعلين في المجتمع المدني للدخول إلى الحلبة السياسية الانتخابية في تونس.
وفي الوقت الذي سجّل فيه وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الإيليزيه، ضربة سياسية مؤثرة للأحزاب الكلاسيكية الكبرى لا تزال تعاني من ارتداداتها إلى يوم الناس هذا، فإنّ شريحة من الفاعلين السياسيين التونسيين باتت تعتبر أن استنساخ الماكرونية في تونس أمر ممكن ووارد.
الإشكال العميق للكيانات السياسية اللاقطة، أنه في خضم تعاملها مع الانتخابات كسوق سياسية قائمة على العرض والطلب، وفي بعض الأحيان على صناعة الحاجة الانتخابية، تزيد من إضفاء طابع السلعنة والتشيئة للعمل السياسيّ، لتصير بذلك البرامج الانتخابية لا برامج فكرية واقتصادية وإستراتيجية لتطوير البلاد وتحسين أوضاع العباد، بل معروضات انتخابية تقوم على التسويق والتأثير والاستقطاب النفسيّ.
تنقسم الكيانات السياسية اللاقطة في تونس إلى ثلاثة أقسام كبرى؛ واحدة مرتبطة بمشاريع ببعض السياسيين “المستقلين”، وثانية متعلقة بمشاريع إعلامية وإغاثية وإنسانية، وثالثة متصلة بمشاريع اتصالية وجمعياتية كبرى تحت مسمى “عيش تونسي”، صحيح أنّها لم تعلن بعد نيتها الانخراط في الانتخابات العامّة ولكن خطواتها الإجرائية ولعل آخرها القيام باستشارة وطنية وتعميمها لوثيقة باتت تحظى بحضور إشهاري في وسائل الإعلام الجماهيرية تشير بوضوح إلى المنحى الماكرونيّ الذي تعتمده الأخيرة.
المُفارقة أنّه في خضم بداية تفكك المنظومات السياسية الكبرى ذات المرجعيات الواضحة على غرار الجبهة الشعبيّة، تتناسل هذه الكيانات الانتخابية اللاقطة والتي تتمعش على تسريب وهم المنقذ والبديل دون تأصيل لأفكار واضحة وأطروحات محددة وصناعة لمشروع وطني مدني منسجم مع مصره وعصره.
وبين أحزاب عاجزة عن صناعة الحلول واجتراح التنمية، وكيانات طُفيلية تقوم على التقاط الأصوات المنددة بالراهن، وتتعامل مع الواقع السياسي التونسي بمنطق التعليب والاستنساخ وبمقتضيات قواعد السوق، يضيع الانتقال الديمقراطي حقيقة ورمزا، وتتناسل المآسي على شريحة واسعة من الشعب التونسي الذي يبدو أنّه سئم الديمقراطية الأداتية اللقيطة وسيسأم من الأحزاب اللاقطة.
أمين بن مسعود/العرب