إنه الفلسطيني الياسر، الحر الثائر، الغاضب المنتفض، الحالم الواعد، الصحافي الشهيد ياسر مرتجى، المناضل بعدسته، والمقاتل بكلمته، والمقاوم بصفحته، الذي اعتاد أن يسجل بعدسته جرائم العدو، وأن يوثق بصوره ما يقترفه جنوده بحق أبناء شعبه، وما يرتكبه من فضائع بحق أهله، وربما أغاضهم كثيراً بعمله، وأزعجهم أكثر بصوره، التي تفضح فعلهم، وتكشف حقيقتهم، وتعري وجههم، وتفضح سياستهم التي يحاولون تزيينها، أو يعملون على إخفائها، ولكن الشهيد ياسر وأمثاله اعتادوا على نشر فضائحهم، وبيان جرائمهم، ونشرها بكل لغات العالم المفهومة، بالصورة التي يفهمها كل البشر فلا تحتاج إلى ترجمة، فتحدثت بلسانٍ فصيحٍ وكلماتٍ فاضحةٍ عن جرائمهم، وأشارت بأصابع الاتهام بكل وضوحٍ إليهم.
ياسر مرتجى اسم جديدٌ في عالم الإعلام قد ارتقى، ونجمٌ فلسطينيٌ آخر قد سما، وشهيدٌ تألق في مسيرة الشعب الكبرى، التي كان فيها سباقاً وأولاً، ومقداماً متقدماً، وصحافياً متألقاً، يرى جنود العدو بعينيه ولا يهابهم، ويشاهد بنادقهم المصوبة ولا يجزع منهم، يراقبهم إذ يهمون بقنص أبناء شعبه، ويصورهم وهم يهمون بقتلهم، وما كان يعلم أن منيته قد حانت، وأن رصاصةً من بنادقهم الحاقدة ستنطلق بعد قليل، وستخترق جسده، وستمزق أحشاءه، وستكون سبباً في استشهاده، ربما كان الشهيد يعلم أنه قد يكون أحد الشهداء، وأن غيره سيوثق شهادته، وسيرصد إصابته، ولكن خوفه لم يمنعه، وغدر جنود الاحتلال لم يحد من اندفاعه، ولم يضع حداً لسعيه ومقاومته، فهنيئاً لك ياسر، طبت حياً وفزت شهيداً.
في مسيرة العودة الكبرى لا مكان للمصادفة، ولا قتل غير مقصودٍ، ولا جريمة إسرائيلية غير مبررة، فقد نشر جيش العدو على الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة مئات القناصة، المزودين ببنادق آلية حديثة جداً، ذات مناظير دقيقة ومتطورة، التي يمكنها أن ترى أبسط الأمور وتكبر أدق التفاصيل، وتحدد أبعد الأشخاص، وتصوب بدرجةٍ عاليةٍ، وتصيب بدقةٍ كبيرة، ولهذا فإن استهداف المصور ياسر مرتجى كان مقصوداً، وقتله كان متعمداً، إذ كان يلبس بزة الصحافة المميزة، ويضع إشارتها المعروفة، ويحمل كاميراته الواضحة، فلا شيء يبدو عليه مريباً، ولا شبهة فيه أو عنده أنه كان يحمل آلة قتالٍ تخيف العدو وترعبه أكثر من كاميرته الإعلامية، ورغم ذلك فقد أصابه قناصٌ متعمداً، وأطلق عليه النار قاصداً.
إنها جريمةٌ جديدةٌ تضاف إلى جرائمه الكبيرة، وخرقٌ فاضحٌ للقوانين والأنظمة، واللوائح والاتفاقيات الدولية، التي تحرم استهداف الصحفيين وطواقم الإسعاف والدفاع المدني، طالما أنهم في الميدان يمارسون مهنتهم، ويلبسون بزتهم، ويحملون أدواتهم المهنية، ولا يقومون بأي عملٍ من شأنه أن يكون قتالياً، ولا يوجد أي شبهةٍ عليهم تثير اللُبس أو الاشتباه فيهم، وهذه الأنظمة والقوانين تلزم دولة الاحتلال، ويجب عليها احترامها والالتزام بها، وعدم خرقها أو المساس بها.
ولهذا ينبغي على المؤسسات الدولية، وأندية الصحافة العالمية، و"صحافيون بلا حدود"، والاتحاد العالمي للصحافة وغيرها من المؤسسات الإعلامية الدولية والإقليمية، أن تهب لإدانة هذا الفعل الشائن، وأن تستنكر هذه الجرمة النكراء، وأن تطالب بتحقيقٍ مهني دوليٍ نزيه، يكشف حقيقة الجريمة الإسرائيلية، ويطالب بمحاسبة من يقف وراءها، ومحاكمة الضباط المسؤولين والجنود المنفذين، وعدم السماح لهم بالإفلات من عواقب هذه الجريمة النكراء المتكررة، فهو لا يرعوي ولا يكف عنها، إذ ليس هناك من يحاسبه أو يلاحقه، ولا يخشى الإدانة ولا يخاف من المحاكمة، وقد كثرت جرائمه ضد العاملين في الصحافة والإعلام والهلال الأحمر ومؤسسات الإغاثة وطواقم الإسعاف وموظفي الأونروا، وغيرهم ممن يتمتعون بالحماية الدولية، وتحميهم المواثيق والأعراف الأممية.
هنيئاً لك ياسر شهادتك، وطوبى لك ما قدمت وأعطيت، وأكرمك الله بأكثر مما تمنيت، وأعظم مما تخيلت، فلعلك اليوم في العلياء تسبح، وفي الجنان تتمتع، ومع النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام تهنأ، وعلى الدنيا من فضاء الآخرة تتطلع، ومن السماء إلى الأرض تنظر.
ويوماً سترى غزة العزة حرةً أبيةً، وفلسطين الحبيبة مستقلةً طليقة، وسيهنأ طفلك من بعدك وسيفخر بما قدمت، وسيرفع رأسه عالياً بما ضحيت، وسيسافر من غزة إلى كل الدنيا، وإليها ومن كل مكانٍ سيعود، وسيصور للعالم كله غزة من العلياء، والقطاع من الفضاء، وحينها سنذكرك جميعاً يا ياسر، فهذا ولدك، وهذا سرك وبقيتك في الأرض، وإننا وإياه معك ومن بعدك على العهد ماضون، وعلى الدرب سائرون، لا يردنا خطبٍ، ولا يقتل حلمنا عدوٌ، بل سيقتل حلمنُا العدوَ، وسينتصر يقينُنُا على وهمه، وحقنُا على باطله، وسيكون حلمنا غداً هو الحق والحقيقة، وحينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي