وبمثل هذا السلوك وبمثل مشروع الميزانية الذي اقترحته شتت الحكومة القوى التي توافقت حول جملة من الأهداف والمبادئ والنوايا الشيء الذي فاقم في الأزمة السياسية وفي الصعوبات التي تشهدها البلاد.
بمشروع الميزانية الذي اقترحته أكدت الحكومة عزمها على مواصلة السير على خطى سالفاتها في الخيارات والتوجهات التي كانت قد ألحقت ضررا جسيما بالبلاد والعباد وقادتها جميعا إلى فشل بيَن. وذلك رغم إلحاح العديد من الأطراف السياسية والاجتماعية على ضرورة مراجعتها، فإنها لم تقدم على تعويضها بأخرى اجتماعية تضامنية مثلما نصت على ذلك "وثيقة قرطاج". وتمسكت الحكومة بتجسيم توجهاتها الخاصة في الموازنة المقترحة، حيث واصلت تجاهل المناطق المحرومة من حقها في التنمية وتجاهلت مطمح الشباب في التشغيل وبصورة خاصة ذاك الذي ينتمي إلى هذه الجهات وكذلك الذي تعرض للفرز الأمني من أصحاب الشهائد، وحمَلت الشغالين والطبقات الشعبية والطبقة الوسطى عبء أزمة لم يتسببوا فيها وخيارات لم يشاركوا في وضعها وتجنبت إجبار المتهربين والفاسدين والمهربين وأباطرة السوق الموازية على دفع الضرائب وعلى الاندماج في السوق الرسمية وعلى الشفافية في المعاملات، وترددت في الإقدام على تغيير العملة طبقا لضوابط وآليات تفرض سلطان الدولة على كتلة المال المتحركة في السوق والتي لا تعرف عنها شيئا. وفي نفس السياق تجنبت دعوة رجال الأعمال المتحملين مسؤولياتهم المجتمعية إلى المساهمة في المجهود الوطني والتضحية بجزء من أرباحهم لإنقاذ البلاد من خطر الانهيار، خاصة وأنهم قد استفادوا من الدولة، وهي الآن في حاجة كبيرة لدعمهم.
وتجلى هذا التوجه أيضا في تهيئة التربة للتفويت في المؤسسات العمومية، بما فيها تلك التي تتعلق بالجوانب الحيوية في حياة الناس، بدعوى أنها تشكو صعوبات مالية وأن عجزها يتفاقم أو أنها غير رابحة، عوضا عن العمل على تأهيلها كي تكون صمام أمان في تعديل الأسعار وداعم لميزانية الدولة وضامن للخدمات العامة. أمَا بالنسبة للأملاك المصادرة فإنها تتعرض إلى عملية تفليس منهجية حتى يتم اقتناؤها من قبل المقربين من سلط القرار بأسعار بخسة، في حين أنه يكون من الأسلم تأميم المؤسسات التي لها مكانتها في السوق والتفويت في البقية بغاية توجيه عائداتها للاستثمار في الجهات الداخلية أو لسد ثغرة العجز الذي تشكو منه الميزانية.
ويمكن القول أن هذا الخيار أخذ بعدا أشد خطورة لمَا واصلت الحكومة السير على خطى سالفاتها في استسهال الالتجاء إلى التداين الخارجي عوضا عن التوجه إلى دعم الادخار الوطني وتعبئة الموارد الداخلية عن طريق استرجاع مستحقات الدولة ممن وضعوا أيديهم على المال العام أو تبرموا من دفع الضرائب والقيام بحملة واسعة للتبرع وبعث صناديق جهوية ووطنية للتنمية ومعالجة معضلة التشغيل.
وعلى هذا الأساس فإن الحزب الاشتراكي يعتقد أن الحكومة الحالية مثلها مثل سابقاتها مطمئنة للدعم الذي تتمتع به من قبل الحزبان اللذان يحوزان على الأغلبية في مجلس نواب الشعب، حيث يمكننا القول أن اللجنة المالية تمثل الحديقة الخلفية للحكومة لمَا حذفت فصل رفع السر البنكي من مشروع قانون المالية، وكأنها تقوم بتعديل الرماية في اتجاه الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، ممَا يؤكد على أن مشروع الميزانية قد وضع في إطار الخيارات والتوجهات الليبيرالية التي قام عليها "الرباعي الحاكم" والتي تتبناها وتدافع عنها الأغلبية البرلمانية، وأن التراجع الذي سجلته في "وثيقة قرطاج" بشأن التمييز الايجابي للجهات المحرومة وبإتباع نمط تنمية اجتماعي تضامني وبإعطاء الأولوية لمعالجة معضلة التشغيل يظهر وكأنه لم يكن سوى تراجع شكلي يهدف إلى تخريط الاتحاد العام التونسي للشغل في "مبادرة حكومة الوحدة الوطنية" وتوسيع "التحالف الحكومي".
ويؤكد الحزب الاشتراكي أن مشروع الميزانية إن تمَ تمريره سوف يكون أرضية لصراع اجتماعي حاد ولأزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة ويحمل المسؤولية كاملة لرئيس الحكومة باعتباره قد استمع للعديد من الآراء التي حذرت من المخاطر التي يمكن أن تتولد عن هذه الخيارات ويدعو بكل إلحاح إلى العودة فورا للحوار الوطني وتوسيعه لمناقشة التوجهات والخيارات التي تمَ التعرض إليها في "وثيقة قرطاج" والتي ينبغي صياغتها في برنامج للإنقاذ يكون كفيلا بتوفير الظروف الملائمة لتجاوز الأزمة ووضع البلاد في طريق نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة وحمايتها من مخاطر الإرهاب والانهيار وإضعاف الدولة وإخراجها من دوامة عدم الاستقرار الحكومي ومساعدتها على تجاوز الأساليب القديمة في إدارة الشأن العام.