تونس/تونس/رأي
يخطئ المراقبون والمتـابعون للشـأن التركي عندما يصفون “التعديلات الدستورية” بأنهـا انتقال من النظـام البرلماني إلى النظام الرئاسي، ذلك أن التحويرات والتغييرات تصبّ في خانة الاستبداد الناعم من الديمقراطية إلى الدكتاتورية، ومن نظام المؤسسات إلى أردغنة الدولة.
كما يجانب المحللون للوضع التركي الصواب حين يشخصون التعديلات الدستورية على أنّها استشراف من فريق الرئيس رجب طيب أردوغـان للشكل السياسي الجديد للبلاد، إذ أنّ أردوغان ومن خلفـه لا يسعون إلى تأسيس نظـام حكم جديد في البلاد، بقدر ما يبتغون شرعنة ومأسسة ودسترة شكل الحكم الحالي الذي لا يمكن وصفه إلا بعبارة “أردغنة الدولة التركية”.
بعبارة أدقّ، يبتغي أردوغان رسملة النظام بوضعه الحالي والراهن حيث تطال يده السلطة القضائية والإعلامية والمدنية والعسكرية والأمنية والاقتصادية وحتّى الدينيّة، لا يريد سليل آل عثمان اجتراح نظام استبدادي جديد في تركيا، بقدر ما هو يعمل ويعمد إلى تنظيم الاستبداد وتقنين التجاوزات ومأسسة الانتهاكات والتطبيع مع حالة الأردغنة.
وبشكل من الأشكال أيضا كان الاستفتاء على التعديل الدستوري الأحد خيارا بين حـالة البطة العرجاء الحاكمة في تركيا اليوم حيث يكون الفاعل الرسمي في واد والمدونة الدستورية في واد ثان، وبـين حالة الدولة العرجاء أو الدولة المعدّلة عندما يصير الاستبداد مرجعية للنص القانوني.
هنا يوضع المقترع التركي بين خيار النار أو الرمضاء، فإمّا أن يقبل برئيس فوق القانون تارة بعنوان الطوارئ، وأخرى تحت يافطة الجغرافيا المحترقة للجوار التركي، وثالثة باسم الإثنيات المتمردة للأكراد، وإما أن يصوّت لفائدة تقنين الأردغنة وهو ما تمّ فعلا.
لعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إنّه لأوّل مرة في تاريخ التشريع والتقنين والدسترة في الدول ذات التوجه الديمقراطي تصبح الممارسة السياسية المنفلتة مرجعا للمدونة الدستورية، ومحددة لأغراض الفاعل السياسي ومآربه في التمدّد على باقي السلطات، في حين أنّ شواهد الدول الرامية إلى الانتقال الديمقراطي تثبت بأنّ القانون جاء لتنظيم الفصل بين السلطات، وأنّ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
وفي ظلّ استفتاء يحصل في غضون حالة الطوارئ وسياسة تكميم الأفواه والزجّ بالآلاف من الصحافيين المستقلين في السجون ووضع عشرات الآلاف من القضاة والمحامين والأكاديميين وأساتذة الجامعات وراء القضبان، وتلفيق التهم الجزافيّة للسياسيين الأكراد وإغلاق العشرات من الصحف والمواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعيّ والفضائيات المعارضة، يكون الاستفتاء ضربا من ضروب التحايل على التاريخ ومخاتلة لكافة التجارب الديمقراطية واستنساخا رديئا لنماذج الدكتاتوريّات المشرقية منها قبل الغربية.
وطالما أنّ مقدّمات الديمقراطية والحرية والتعددية منعدمة، فإنّ مخرجات اختبار الإرادة الشرعية والشعبية تكون معدومة، فلا فرضيات للاجتباء في الاستبداد طالما أنّ الاختيار محصور بين ما يريده السلطان تقنينا، وبين ما يفرضه أردوغان تجسيدا وتمكينا.
المفارقة في العالم العربي أنّ عرب أردوغان من المشدوهين والمجذوبين للسلطان، لم ينتبهوا لحظة إلى أنّ الاستفتاء يضرب في الصميم التجربة الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية، وأنّ النموذج التركي الذي جذب إليه الكثيرين من المتابعين في الوطن العربي وخارجه لم يعد قادرا على استدرار القوة الناعمة والجامعة بين التراث من جهة، والديمقراطية من جهة ثانية.
بل إن عرب أردوغان لم يبصروا بعمق التقاطع البيّن بين تجارب استهداف الانتقال الديمقراطي في بعض العواصم العربية وحالة أردوغان.
فلئن كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قد أضعف مسار الدمقرطة في البلاد عبر الاستيلاء على كافة الشرعيات وإضعاف المعارضات، والرئيس السوداني عمر البشير قد أنهى العصر الذهبي للسودان بعد الانقلاب على الحكم والانقلاب على المجال العـام في مرحلة لاحقـة، والرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز الذي استفرد بالتعديلات الدستورية في البلاد (الغريب أن إخوان موريتانيا يعاضدون أردوغان ويعارضون عبدالعزيز) ضاربا عرض الحائط بالسلطات التشريعية، فإنّ أردوغان يجمع في استفتائه المثير للجدل بين السوءات الثلاث، فهو يحصر السلطات في قبضة الفرد وليس المؤسسات المستقلة، ويستهدف المجال العام الإعلامي والسياسي والعلمي والقضائي والمدني في البلاد، ويبشّر الأتراك باستواء على العرش إلى 2029.
في لقاء صحافي سابق سئل رجب طيب أردوغان عن الأسباب التي تجعله متمسكا بالنظام الرئاسي، فردّ بأنّ دولا أوروبية عديدة جربت هذا النظام ونجحت في تسيير الأمور وإدارة شأن المواطنين، وعندما طلب منه أن يضرب مثلا لتلك البلدان، أجاب بوضوح: ألمانيا في عهد هتلر على سبيل المثال. ويا له من نموذج ومثال.
أمين بن مسعود:كاتب ومحلل سياسي تونسي