وقد شهدت الانتخابات المحليّة تدني نسب التصويت فيها، و خاصّة فئة الشباب، و سنحاول في هذا المقال التفسيري فهم أسباب هذا التدني و العزوف عن المشاركة المدنية لدى فئة الشباب و التي تمثل أكثر من نصف سكان البلاد، وفق المعهد الوطني للإحصاء.
ضعف الاهتمام بالمواعيد الانتخابية
اعتبر الخبير في الحوكمة، الأستاذ محمد ضيفي أن ضعف الاهتمام بالمواعيد الانتخابية، لم يعد مجرد "ظاهرة عابرة"، بقدر ما بات "ملفا مستجدا" في الساحة السياسية والاجتماعية، خاصة من جانب الشباب، الذين يشكلون أكثر من نصف الناخبين المسجلين في القائمات الانتخابية، انطلاقا من البنية الهرمية العمرية للمجتمع التونسي التي يغلب عليها الشباب وصغار السن.
اعتبر الخبير في الحوكمة، الأستاذ محمد ضيفي، بأنه وجب علينا أولا أن نميز بين ثلاثة أصناف: الأول، المقاطعة و هو موقف سياسي من الانتخابات. أما الثاني، العزوف و هو موقف من الوضع العام في البلاد يؤدي بالضرورة لعدم المشاركة في الانتخابات. و الثالث، اللامبالاة و هو عدم الاهتمام أصلا بالفترات الانتخابية في البلاد.
و بعد اكتمال مسار تركيز الغرفة التشريعية الثانية، بدا يتضح شيئا فشيئا مشروع رئيس الجمهورية بما يعرف بالبناء القاعدي، لكن هذا الوضوح يقابله تعتيم و ضبابية في مدى قبول فئات الشعب التونسي لهذا المشروع، خاصة بعد ما كشفت عنه الانتخابات الأخيرة من تدني في التصويت بنسبة لم تتجاوز 12 بالمائة.
و هذا التدني لم يخفيه الشباب ذو الفئة العمرية من 18 إلى 35 سنة، إذ أنه وفق ما سنبينه في الرسم البياني الأول، سجلت الإنتخابات المحليّة الأخيرة نسبة متدنية في مشاركة الشباب تصويتا لم تتعد 19 بالمائة، و ترشحا و فوزا سجلت 21 بالمائة.
هذا العزوف يعكس حالة من الاستقالة من المشاركة في الشأن العام، من جانب الشباب، وشعورا بالإحباط من الوضع السياسي وقدرتهم على التأثير أو التغيير، في ظل هيمنة الأزمات الاقتصادية والمعيشية على الواقع اليومي.
كما كشف جمعيّة شباب بلا حدود، أنّ الرهان على الانتخابات المحلية لاستقطاب مشاركة واسعة من فئات الشباب ترشحا وتصويتا، انطلاقا مما تشكله من إطار للمشاركة في إدارة الشأن المحلي وصياغة القرار، لم يتمكن من تحقيق هذه الغاية، وهو ما ينعكس في قرار هيئة الانتخابات في شهر نوفمبر 2023، بتمديد آجال تقديم الترشحات للانتخابات المحلية خمسة أيام، بسبب عدم تقدم مرشحين بعدد من الدوائر الانتخابية.
إقصاء تشريعي للشباب
وأكد عضو شبكة "مراقبون"، سيف الدين العبيدي، في تصريح سابق، أن "عزوف" الشباب لم يكن فقط، في المشاركة الانتخابية، بل حتى في المشاركة في الشأن السياسي ككل، فإن كانت القوانين تقصيهم من مواقع القرار ومن ممارسة السلطة فكيف ننتظر منهم المشاركة لاحقاً.
وتابع، "إذ أنه في غياب الآليات والوسائل التي تضمن لهذه الفئات المشاركة في صنع القرار، لا يجب أن نطلب منهم الحضور فقط عند وضع التزكيات أو التوجه إلى صناديق الاقتراع للانتخاب".
وقد ضم القانون الانتخابي السابق بعض الإجراءات التي تمكّن الشباب من المشاركة من خلال ترشح التناصف الأفقي في الانتخابات التشريعية والعمودي في البلدية، ولكن للأسف كل هذا نُسف بالقانون الانتخابي الجديد و بالمرسوم 55.
وحسب ما سنتبينه في الرسم البياني الثاني، فإن الشباب كانوا على الأقل موجودين في القائمات البلدية ولو في المرتبة الثالثة والثانية، ولكن تم التخلي عن قانون يحفز و يفرض وجود الشباب في اللعبة الانتخابية، وهو ما عزز غيابهم، فضلاً عن العزوف العام الذي برز في انتخابات 17 ديسمبر.
خيبة "كبرى" في النظام القائم و عودة إلى مربع "الحرقة"
كشفت لنا الباحثة في علم الاجتماع، نضال الشمنقي، أن العزوف عن المشاركة في الانتخابات كظاهرة، بدأت تتشكل منذ سنة 2014، إلى أنها زادت في الفترة الأخيرة بشكل مثير للاهتمام.
واعتبرت أنّها نتاج شعور الشباب بخيبة كبيرة من التحولات السياسية الحاصلة في البلاد، فضلا عن المواقف السلبية تجاه الأحزاب وكيفية تعاملها مع الشباب والشابات، خلال المحطات السابقة.
كما لاحظت محدثتنا أن الشباب في تونس لم يلمس في السياسات الحالية، "ما يجعله يندفع من جديد ويؤمن بأن هناك نقلة نوعية في مجال العمل السياسية وآلياته".
وأوضحت الباحثة في علم الاجتماع، أنّ الشباب في المرحلة الراهنة، ليس لديه أي استعداد للتفاعل بشكل إيجابي مع رسائل وخطابات رئيس الجمهورية، واختار ليس مجرد العزوف عن المشاركة، بل وكذلك الترشح والفعل السياسي بشكل عام.
وخلصت الشمنقي إلى أنّ عددا هامّا من الشباب في تونس يعيش الإحباط، نتيجة عدم تجسيد الشعارات الاجتماعية والاقتصادية للثورة، المرتبطة بالتشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية، على الرغم من تعهد الرئيس سعيد في مناسبات متعددة بتحقيقها.
وبالعودة إلى نتائج الانتخابات المحليّة الأخيرة، يتضح من خلال الرسم البياني الثالث، تدني نسبة فوز الفئة العمرية الأقل من 35 سنة في الدورتين الأولى والثانية.
و بهذا، نتبيّن أن معظم الشباب باتوا لا يهتمون بما يجري على الركح السياسي وخاصة على المستوى الرسمي، وعادت هذه الفئة إلى مربعها السابق قبل الثورة، وإلى الاهتمام بالقضايا الصغيرة واليومية، وأصبحت لا تبدي أية قيمة أو اهتمام للخطاب السياسي بشكل عام.
كما أصبحت الفئة الشبابية تبحث عن آفاق أخرى، وحلول بديلة، حتى وإن تمثلت، في حدّ أقصى، في الهجرة غير النظامية، وبالعودة إلى نسب الهجرة غير النظامية في السنوات الأخيرة و فئات المهاجرين، سنجد أن الظاهرة أصبحت تجتذب أنماطا جديدة مثل الطلبة والأستاذة، والإطارات والكوادر ممن يمتلكون مستويات تعليمية مرموقة.
بصيص الأمل لا يصنعه إلا الشباب
رغم حضوره بقوة في لحظات فارقة في تاريخ البلاد، منذ أحداث 2011، و مشاركته القوية في اقتلاع نظام متجبر، و حضوره في كل المحطات الفارقة في البلاد، يعتبر الشباب التونسي من أكثر الشرائح المجتمعيّة تضررا ممّا حصل.
لكنّ رغم الصورة الضبابية السابقة، هناك من الشباب النشط سياسيا و اجتماعيا، و المؤمن بالتغيير الايجابي و المثابر و الصامد أمام أي نظام أو حاكم يريد طمس دوره الهام في بناء تونس، كان لنا حديث خاصّ مع القيادي و عضو المكتب السياسي لحزب التيار الديمقراطي، زياد غناي..
و برسائله للشباب خاصة، و التونسيين و التونسيات عامّة، ختم الشاب زياد غناي حواره، و هو الملاحق أمنيا و المحاصر في تحركاته، لكنّه مصرّ على أنّ لحظة التغيير قادمة عاجلا أم آجلا.
تنويه: هذا العمل أنجز في إطار برنامج تدريبي حول تغطية الانتخابات وتعزيز المشاركة المدنية ينفذه مركز تطوير الإعلام.