إنه مخيمي الذي فيه ولدت وترعرعت، وفي شوراعه نشأت ودرجت، وفي مدارسه تعلمت ودرست، وفيه عشت وأهلي، وسكنت واخوتي، وتزوجت منه ورزقت فيه ببناتي، وما زلت إليه رغم النفي والإبعاد أنتمي وأنتسب، وأحب وأعشق، وأحن وأشتاق.
فأنا ابن مخيم جباليا، مخيم الصمود والثورة، مخيم البطولة والتحدي، والمقاومة والنضال، المخيم الذي يخشاه العدو ويهابه، ويحسب ألف مرةٍ قبل أن يطرق أبوابه أو يفكر بالدخول إلى أعتابه، وقد عانى منه قديماً وذاق المُرَّ في شوارعه وأزقته صنوفاً، وقتل فيه جنوده وفر منه ضباطه، وعجز عن السيطرة عليه ليلاً سنين طويلة، وبقي يدخله نهاراً على حذر، إذ أن القتل كان يلاحق جنوده في كل مكانٍ، وينال منهم الفدائيون قديماً والمقاومون حديثاً بكل سهولةٍ ويسرٍ.
مخيم جباليا الذي دخله جيش العدو في الأيام الأولى لعدوانه على غزة، ودمر منازله ومساكنه، وأسواقه ومساجده، ومحاله ومخازنه، وقتل الآلاف من سكانه، وشرد عشرات الآلاف منهم إلى لا مكانَ آمنٍ، ولا إلى مناطق إيواءٍ محميةٍ، وقضى على كل مقومات الحياة فيه، إذ قطع عنه امدادات المياه وعطل المجاري، وحرم أهله من مياه الشرب والخبز، ومن السكر والدقيق وكل شيءٍ آخر، وغدت شوارعه المدمرة مبانيها والمبقورة بطونها، والمجرفة كلياً، مليئة بأكوام القمامة، وتغص بالمجاري والمياه العادمة، إذ لا قدرة على تصريفها أو التخلص منها ومعالجتها، لكن أهل جباليا أدركوا أنهم في تحدٍ فصمدوا، وفي مواجهةٍ فثبتوا، فلم يغادره إلا القليل، وبقي صامداً فيه الكثيرون من أهله.
ظن جيش العدو المدجج بكل أنواع السلاح، والمعزز بالدبابات والطائرات، أنه دمر المقاومة في شمال القطاع، وأضر ببنيتها التحتية، وقضى على قدراتها الذاتية، واكتشف أنفاقها ودمرها، وصفى رجالها وشتت قواتها، واستنفذ سلاحها وجفف منابعها، وأنه لم يعد في جباليا البلدة والمخيم مقاومةً تخيف، ولا قدرةً تردع، ولا سلاحاً يوجع، ولا تنظيماً يستعيد قواه ويعيد ترتيب صفوفه، ولن يواجه جيشه فيه أخطاراً حقيقية تهدد حياتهم، وتحبط خططهم، وتفشل مشاريعهم، وتجبرهم على أن يعيدوا جنودهم رفاةً في توابيت، أو جرحى على حمالات المسعفين في السيارات والطائرات.
لكن جباليا هبت من جديدٍ وكأنها في أول المعركة، وانتفضت وكأنها كانت على موعدٍ، تنتظر عدوها وتتربص به، وتستعد له وتتوق لمواجهته، وقد أعدت عدتها وجهزت نفسها، واستعدت لحربٍ جديدةٍ قد تكون أنكى من الأولى وأشد، وأكثر فتكاً بعدوها وتهديداً له، وهو الذي ظن أنه أمن شرها، واطمأن إلى ضعفها، وركن إلى عجزها.
لكنه فوجئ وصدم عندما رأى أنها له بالمرصاد، وقد أثبتت على الأرض وفي الميدان أنها جاهزةٌ برجالها، وأن بنادقها عامرة، وسلاحها وافرٌ، وقرارها حاضرٌ، وفخاخها متقنة، ومصائدها معدة، وحقولها الملغمة كثيرة، وأن قدرتها على لملمة صفوفها وترميم جراحها وإعادة تنظيم نفسها كبيرة، ما أهَلَّها لأن تنال منه وتوجعه، وتوقعه في حبائلها وتخسره، وتدخلها مصائدها وتكبده.
إنها جباليا التي فجرت انتفاضة الحجارة، وأشعلت فتيل الثورة، وحملت شعلتها إلى كل أرجاء فلسطين، وكان منها العقل عماد، والمبحوح محمودٌ، وأبو طاقية خالد، والسيسي حاتم، وإليها لجأ العياش يحيى وفيها أقام، ومنها كان الشهداء الستة، وأبطال الجبهة الشعبية الأوائل، وقوات جيش التحرير الأماجد، ومغاوير فتح وغيرهم من رموز الثورة ورواد المقاومة، الذين جعلوا مخيم جباليا كابوساً لا يطيقه الإسرائيليون، ورعباً لا يتعايش معه شارون وقد كان قائداً للمنطقة الجنوبية، ومصيراً يخشاه جنود النخبة وقادة الفرق الخاصة، الذين كانوا جميعاً يجبنون عن الدخول إليه، والمغامرة في حياتهم في أزقته، بحثاً عن الفدائيين، أو ملاحقةً للمقاومين.
سلام الله عليك أيها المخيم الأعلى الأشم، الأجل الأكرم، وسلام الله على أبنائك وشهدائك ومن ضحى في سبيلك، حفظك الله وأهلك، ورفع قدرك وسما بسكانك، وأيدك بنصره وأمدك بجندٍ من عنده، وسدد رمي رجالك وحمى أبطالك، وجعلك شوكةً في حلق أعدائك، وصخرةً تتحطم عليها معاولهم، وعوض أهلك خيراً ممن فقدوا، ورزقهم من بعدهم نصراً، وأكرمهم بتحرير بلادهم، والعودة إلى ديارهم، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وما ذلك عليه سبحانه وتعالى بعزيز.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي