لكن الحقيقة كانت أكبر من الخيال، والصور أبلغ من الأخبار، والمشاهد على الأرض تشي بما هو أكبر من الزلزال وأشد عصفاً من الإعصار، فما تفعله الطبيعة أرحم بكثيرٍ مما يفعله الإنسان، وأشد فظاعةً من آثار زلزلة الأرض التي لا تطول، وأكثر تدميراً من عاصفة السماء التي لا تدوم، إلا أن العدو الحاقد جمع في عدوانه كل الأحقاد والشرور، وخلف وراءه ما لا تقوى على إدراكه العقول أو تتصوره الأذهان، وهو ما يريد إخفاءه ويخشى من ظهوره، لعلمه التام أن من يرى أبداً ليس كمن يسمع، وأن ردة الفعل بعد المعاينة والتشخيص، والتدقيق والتوثيق، ستكون مخالفةً للتقارير المكتوبة والأخبار المنقولة.
أصيب سكان قطاع غزة بالذهول لهول ما رأوا، وصدموا لمشاهد الخراب والدمار الذي أصاب كل شيءٍ في القطاع، ولحق بكل زاويةٍ فيه، حيث لم ينجُ منه بناءٌ أو مؤسسة، ولا حجر أو شجرة، ولا شارع جانبي أو طريقٍ رئيسي، وكان الفلسطينيون رغم كل التحذيرات قد وصلوا إلى كل مكانٍ، وإن كانوا قد بدأوا بتفقد بيوتهم، والاطلاع على أحوال مناطقهم، وتفقد جيرانهم والاطمئنان على معارفهم، فوجدوا أن البيوت مدمرة، والأحياء ممسوحة، والمناطق متغيرة، ولم يعد من السهل تمييز معالمها القديمة، ومعرفة علاماتها السابقة، إذ ليس على الأرض سوى ركام، وبقايا بيوتٍ مهدمة وأمتعة متناثرة، وأثاث محطمٍ.
وجد الفلسطينيون مساجدهم مدمرة، ومآذنها على الأرض ساقطة، وأسواقهم وكأنَّ عاصفةً هوجاء قد أصابتها فمزقتها، وبعثرت واجهاتها وهدمت جدرانها، ورأوا الشوارع والطرقات وكأن آلياتٍ ضخمة قد حرثتها، وقلبتها فجعلت عاليها سافلها، وتركت في أنحائها حفراً عميقةً وأخاديد كثيرة، أما مدارس الأونروا وإن كانت مأهولةً، إلا أنهم وجدوها وقد تصدعت مبانيها، واستشهد الكثير ممن لجأوا إليها وظنوا أنها مؤسساتٌ محميةٌ وهيئاتٌ أمميةٌ محصنة.
أما المستشفيات التي أعلن العدو حربه عليها، وصب جام غضبه عليها، بعد أن صورها أنها مقار القيادة، وفيها غرف العمليات العسكرية، ومخابئ القادة والمسؤولين، وفيها يخفون الأسرى والمعتقلين، فقد تركها العدو مدمرة، وخلف في ردهاتها وعلى جنباتها عشرات الجثث، التي لا يعرف أصحابها ولا تميز هوياتها، وكثيرٌ ممن قتلهم كانوا جرحى أو مرضى، لكنه كان يريد تدمير هذه الرموز التي صنعت الأساطير بصمودها وصبر أهلها، وأصبحت معاقل للاجئين ومساكن للنازحين، فدمرها وخربها، وعاث فساداً في جنباتها، وترك ردهاتها وكأن بحراً قذف بكل ما فيه على شواطئه، فكانت أشلاءً متناثرة وبقايا أدواتٍ صحية مبعثرة، وآثار دماءٍ على الأرض كثيرة، وأجزاءً من أعضاء مبتورة.
لكن المشاهد الأصعب والأكثر تأثيراً وحزناً، والأشد ألماً ووجعاً، كانت عندما تفقد أهل غزة أبناءهم وعائلاتهم، إذ كانوا مقطوعين عنهم ولا يتواصلون معهم، ولا يعرفون شيئاً عنهم غير الأخبار غير المتواترة التي تصلهم، بسبب قطع العدو لكافة الاتصالات السلكية والخلوية، فسألوا عن بعضهم وتفقدوا بيوتهم وحواريهم، فاكتشفوا أن عدداً كبيراً من أحبتهم قد استشهد، وأن آخرين ما زالوا مفقودين تحت الأنقاض، ولا أحد يستطيع الوصول إليهم أو التأكد من حالتهم، وأن عدد الشهداء أكبر بكثيرٍ مما يعلن عنه، وأنه قابل للزيادة المضطردة كلما طالت فترة الهدوء، وتفقد الأهل بعضهم البعض.
أمام هذه الفواجع الكبيرة والصور القاسية والمشاهد الأليمة، سار الفلسطينيون على أقدامهم بخطىً ثابتةٍ وقاماتٍ ممشوقةٍ، وهمةٍ عاليةٍ، نحو أحيائهم ومناطقهم، وجابوا الطرقات العامة والشوارع، فلم يظهروا للعدو ضعفاً أو هنةً، ولا أسىً أو ندماً، بل أخذوا بأيدي بعضهم البعض، يواسون أنفسهم ويشجعونها، ويغذون الخطى ويستعجلونها، ويفكرون في الغد ويخططون للمستقبل، ويقولون لعدوهم ومن تحالف معه، نحن في أرضنا سنبقى، وعلى ترابها سنعيش، وبها سنتمسك، وعنها لن نتخلى، وهذا العدو الباغي يجب أن يردع، ومخططاته يجب أن تفشل، وآماله يجب أن تحبط، ولن يتحقق منها شيء مهما أثخن وأوغل، وقتل وأوجع.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي