ربما لا يرضى الفلسطينيون عن هذه التهدئة كثيراً ولا يعجبهم توقيتها، التي تأتي قبيل أيامٍ قليلة من مسيرة الأعلام اليهودية، التي يخطط لتنظيمها متطرفون إسرائيليون، ويراهن على نجاحها أقطاب حكومة اليمين وفي مقدمتهم إيتمار بن غفير وبتسليئيل سموتريتش، اللذان يعتبران نجاح المسيرة تحدياً للفلسطينيين وإرغاماً لمقاومتهم وهزيمةً لها، وهي المسيرة التي حالت المقاومة دون نجاحها أكثر من مرةٍ، مما جعل تنظيمها هاجساً يقلق المتطرفين ورهاناً يصرون عليه.
لكن الهدنة تم التوصل إليها، وأعلن الطرفان التزامهما بها، وباركتها إلى جانب مصر دولٌ وحكومات كقطر والولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وبذلك أصبحت أمراً واقعاً، وكان قد جرى التوصل إليها بجهودٍ مصريةٍ بعد خمسة أيامٍ من العدوان الغادر الذي خلف 33 شهيداً وأكثر مائة جريحاً، ودمر عشرات البيوت والشقق السكنية، وألحق دماراً وخراباً واسعاً في أنحاء متفرقة من قطاع غزة، شمل الأراضي الزراعية والمنشئات الصناعية ومعسكرات التدريب ومنصات الصواريخ ومخازن السلاح.
ليست المشكلة في الموافقة على الهدنة وإعلان القبول بها، خاصةً أن هذه ليست الهدنة الأولى بين المقاومة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، فقد سبقتها عشرات التفاهمات والتهدئات والهدن المختلفة الأسماء والمتعددة البنود والمتنوعة الشروط، ولو أنه تم الالتزام بأولها وحافظ أطرافها على بنودها، ما كانت هناك حاجة لغيرها، ولكن التفاهمات السابقة قد سقطت كلها وانتهت، ولم يتم الحفاظ عليها والالتزام ببنودها، وتم خرقها من طرف العدو أكثر من مرةٍ، حتى أصبحت بحكم المعدومة وغير الموجودة.
نتيجة الخبرة ومعرفة الفلسطينيين بالعدو الإسرائيلي فإنهم لا يتوقعون منه التزاماً بالهدنة، ولا يستبعدون قيامه بخرقها في أقرب الآجال، وعودته إلى عمليات القصف والتدمير والاغتيال، فقد اعتادوا على السياسة الإسرائيلية، التي تمثل امتداداً للجبلة اليهودية القديمة، فهم أقوامٌ لا عهد لهم ولا ميثاق، ولا أمانة عندهم ولا شرف، ولا يرقبون في الفلسطينيين إلاً ولا ذمةً، ولا يحفظون معهم عهودهم أو يلتزمون باتفاقياتهم، والشواهد على تخوف الفلسطينيين منهم كثيرة، والحوادث على خرق العدو للاتفاقيات والتفاهمات معهم عديدة.
يأمل الفلسطينيون دائماً من الأشقاء في مصر أن يضمنوا الاتفاقيات، وأن يسهروا على تنفيذ التفاهمات، وأن يرغموا العدو على احترامها والوفاء ببنودها وعدم القيام بخرقها، فمصر هي الراعية والوسيط، وهي الضامنة والكفيلة، وهي دولةٌ لها مكانتها ومنزلتها، وتحترم كلمتها وتحافظ على سيادتها، ولا تقبل المساس بها أو الالتفاف عليها، ولهذا فإنهم يرجون منها بالقدر الذي تمارس فيها ضغوطها عليهم، أن تمارس الضغط نفسه على العدو الإسرائيلي، وأن تلزمه وتجبره، وأن تخضعه وتهدده، وألا تقبل منه خرقاً أو انتهاكاً، ولا تجاوزاً أو اعتداءً، وإلا ترفض الوساطة بينه وبين المقاومة، خاصةً أنه إليها يلجأ دوماً، طالباً وساطتها ومستجدياً جهودها، إذ لا غيرها يستطيع الحلول مكانها، وبدونها يصعب عليه التوصل إلى أي هدنةٍ يطلبها أو هدوءٍ يتطلع إليه.
لكن التجارب السابقة تشير إلى أن العدو الإسرائيلي لا يحترم أحداً ولا يلتزم عهداً، ولا يقدر الجهود ولا يحفظ الوعود، إذ يقوم بخرق الاتفاقيات ونقضها، ويسيء إلى الوسطاء ويهين الضامنين، ويعاود العدوان وارتكاب المجازر وتنفيذ الغارات، ويرتكب جرائم اغتيالٍ جديدة ويقوم بعمليات إعدامٍ ميدانية، وغير ذلك مما عودنا عليه طيلة سنوات الاحتلال.
أمام هذا الواقع الذي لا يمكن إنكاره، وهذا الشر الذي لا يمكن دفعه، والخلق الذي يستحيل تقويمه، والسياسة الخبيثة التي يصعب إصلاحها، فإنه لا سبيل أمام الفلسطينيين لإجبار العدو على القول بالشروط، والخضوع للبنود والالتزام بالاتفاقيات سوى الحفاظ على المقاومة قويةً قادرةً رادعةً جاهزةً، إذ أنها الوحيدة الكفيلة بردعه وزجره وضبط سلوكه، ولعل المقاومة تفهم دورها جيداً وتدرك وظيفتها حقاً، لهذا فهي تؤكد دائماً أنها جاهزة في الميدان لضبط كل وسوسة، ومحاسبة كل معتدٍ، والرد عليه بما يستحقه ويستأهله، ويردعه ويؤدبه، ويعيد إليه عقله ويزجره.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 14/5/2023