المجتمع الذي لفظني أكثر قساوة من السيدا
داخل غرفة جدرانها مشققة وأثاثها بسيط ومهترئ جلست السيدة "أمل" بوجه شاحب تنعدم في تفاصيله البسمة ونظرة التفاؤل، الهالات تحت عينيها وجسدها النحيل الذي تلتصق به ثياب رثة ليسا إلا تجسيدا لحالة الإرهاق التي لازمتها على الدوام. بصوت ضعيف غير واثق يملأه الشك في كل من حولها تحدثت لتنقل إلينا معاناتها مع رحلة المرض والتشرد.
أمل تبلغ من العمر 42 عاما أصيلة مدينة القيروان تبلغ من العمر 42 عاما. توفيت والدتها بالسرطان حين كانت طفلة وتزوج والدها فما كان منها إلا أن تحملت مسؤولية إخوتها في سن مبكرة.
حين كان أترابها في المدارس يتعلمون تشردت هي في الشوارع والأزقة تقتات منها لقمة عيش تسد بها رمق الجوع. عملت في الأراضي الفلاحية وفي تنظيف المنازل بأبخس الأسعار. وتحملت جميع أنواع الذل والإهانة والضرب من طرف بعض أقاربها الذين استغلوها في الأعمال المنزلية ثم طردوها وتنكروا لها بلا أدنى رحمة.
مجددا كان الشارع بانتظارها فنامت في ليالي البرد والقيظ تحت الجسر وفي محطة الحافلات وغيرها من الأماكن المخيفة غير المأهولة. كما تعرضت لمحاولات تحرش نجت منها بأعجوبة.
اضطرت حين كانت في الرابعة والعشرين من عمرها للزواج من عجوز في السبعين من عمره في محاولة يائسة للبحث عن المأوى وعن سند يحميها وينسيها الأهوال التي رأتها.
ظنت بداية الأمر أنها سترتاح بعد تعبها وتؤسس أسرة كغيرها من النساء. لم تطمح لشيء غير هذا رغم علمها بأن زوجها سكير وزير نساء شُهر بتعدد علاقاته المشبوهة. تغاضت أمل عن الأمر علّها تنجح بالمحافظة على زواجها.
بين الفترة والأخرى كان زوجها يظل لعدة أيام طريح الفراش يعاني من الإرهاق والحرارة المرتفعة قامت بواجباتها تجاهه على أكمل وجه واهتمت بصحته و طعامه وملبسه.
بعد زواجها بفترة استخرجت عدة وثائق من بينها شهادة طبية، أعلمها الطبيب حينها أنها مصابة بالسيدا ويالهول ما اكتشفته ! تيقنت حينها أنها أصيبت بالعدوى من طرف الزوج.
تقبلت مرضي و لم يخفني شبح الموت" هكذا استهلت حديثها فور ذكر آثار المرض ووقعه على نفسيتها. فضلت أمل اخفاء مرضها عن المحيطين بها لكنها أعلمت أباها وزوجته اللذان تعاطفا معها بداية الأمر واستقبلاها في منزلهما بعد طلاقها. لكن المعاملة تغيرت فيما بعد فصاروا لا يشربون من نفس الكأس الذي تشرب منه ولا يأكلون من نفس الصحن الذي تأكل منه ويتجنبونها طوال الوقت خوفا من أن تصيبهم العدوى. أحست بأنها منبوذة واضطرت إلى المغادرة بحثا عن مأوى جديد فرفضت شقيقتها استقبالها. أخيرا وجدت منزلا بسيطا متواضعا منحه لها أحد جيرانها. ظلت أغلب الوقت حبيسة جدرانه.
أخفت حقيقة مرضها عن كل النسوة اللاتي يزرنها بين الحين والآخر ليمنحنها بعض الطعام والقليل من المال خوفا من أن ينبذنها ويهجرنها هن أيضا.
فتصنعت القوة والصّحة أمامهن والحال أنها منكسرة وهشة لأبعد حد. ما عاشته سابقا جعلها تدرك جيدا أن المجتمع لن يرحمها ولن يحنو عليها في حال شاع خبر إصابتها بالإيدز، فخيرت بداية الأمر عدم الذهاب للجمعيات المعنية بالأمر كي لا يراها أحد معارفها ويبلغ الآخرين عنها.
لعب الإعلام الذي يطرح مشاكل المرأة ومعاناتها تجاه المواضيع المسكوت عنها اجتماعيا، دورا إيجابيا وتحسيسيا في حالة "أمل" فالمقال الذي نشر عنها لاحقا باحدى الصحف المحلية الإلكترونية دفع أحد الأطباء المتخصصين للتواصل معها ومساعدتها. حيث عاينها مجانا في عدة مناسبات وقدم لها الدعم الذي تحتاجه ومنحها بعض الأدوية من جيبه الخاص حين كانت في وضعية صحية سيئة جدا، كما تواصل مع احدى الجمعيات لتساندها وتوفر لها الحد الأدنى من احتياجاتها المادية والطبية والنفسية كإمرأة مصابة بالإيدز.
تشير الاحصائيات الأخيرة حسب التقرير السنوي للبرنامج المشترك للأمم المتحدة لسنة 2019 أن عدد المصابين بالسيدا في تونس يقدر ب 6466 حالة 20% فقط يعرفون أنهم مصابون وحسب البرنامج الوطني لمكافحة السيدا فيبلغ عدد الحالات المسجلة الجديدة ب198 حالة منها 6 حالات للأطفال ويصل عدد المتعايشين مع المرض إلى 1303 حالة ينتفع جميعهم بالعلاج الثلاثي المجاني من ضمنهم 34 حالة للأطفال و 745 للذكور و بنسبة أقل تقدر ب524 للإناث . وقد تم إرساء 25 مركزا للإرشاد والكشف المجاني لفيروس السيدا لتغطية 19 جهة وهي فضاءات مفتوحة للانصات والإرشاد.
نسب عنف مرتفعة وجهود كثيفة للتصدي له
في حادثة لن تكون الأولى ولا الأخيرة من نوعها داخل أسوار منازل العائلات التونسية تعرضت الشابة يسرى (29 عاما ) للضرب المبرح والتعنيف من طرف شقيقها الذي يصغرها بسنتين بسبب سوء فهم بسيط.
لم تكن المعركة الأولى التي تنتهي بتعنيف الشاب لأخته جسديا ولفظيا . لكن الأمر هذه المرة اتخذ منعرجا خطيرا إذ رفع السكين في وجهها مهددا إياها بالقتل بهدف تخويفها كي لا تتمرّد عليه مجددا أو تحاول مواجهته والدفاع عن نفسها. كما قام أثناء العراك بدفع والدته وإسقاطها أرضا رغم كبر سنها ومرضها حين حاولت فضّ الخلاف بينهما بأقل الأضرار الممكنة.
غادرت الفتاة المنزل لعدم شعورها بالأمان رفقة أفراد عائلتها، وأكدت أن والديها كانا منذ صغرها يشجعان أخاها على تعنيفها معتبرين أن للرجل الأحقية المطلقة بتربية أخته حفظا لشرف العائلة وسمعتها. واستعملت صفحتها على الفايسبوك كمنبر تحدثت فيه عن تعرضها للمظلمة من طرف شقيقها ناشرةً صورة مقربة لوجهها الذي تظهر عليه العديد من الكدمات. لاقى منشورها تفاعلا واسعا وتعاطفا كبيرا من طرف المتابعين ومساندة لم تكن تتوفعها، حتّى إن بعض الجهات الرسمية تحركت من حينها للتحقيق مع أخيها الذي وقع التزاما في مركز الشرطة بأن لا يتعرض لها ويهاجمها مجددا وإلا سيُعاقب قانونيا. كما نصحتها الأطراف المعنية بمناهظة العنف ضد المرأة بالتوجه إلى أحد مراكز إيواء النساء المعنفات حماية لها من بطش أخيها إلا أنها تراجعت عن الذهاب بعد اعتذاره منها.
يذكر أن مراكز الإيواء الستة المتواجدة في ولايات مختلفة (تونس، جندوبة، القيروان...) تشهد إقبالا مكثفا من طرف النساء ضحايا العنف وتسعى لإستقبالهن من كامل تراب الجمهورية رغم ضعف عدد أسرة الإيواء.
حيث تزايدت نسبة العنف الموجه ضد النساء من طرف أسرهنّ وأزواجهنّ بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة. وارتفع عدد الحالات المبلغة عن العنف في سنة 2021 ب7 مرّات مقارنة بسنة 2019. كما تلقت وزارة المرأة والأسرة والطفولة خلال فترة الحجر الصحي 312 مكالمة في مدة 11 يوما من طرف نساء تم تعنيفهنّ جسديا ونفسيا. وبناء عليه قامت الدولة خلال تلك الفترة بتوفير رقم أخضر مجاني يعمل 24/24 ساعة طيلة أيام الأسبوع. وأطلقت عديد الجمعيات النسائية ومنظمات المجتمع المدني حملات تضامنيّة بهدف حماية المرأة من العنف الممارس ضدها. من ضمنها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات التي وفرت رسائل توعية لتخطي الضغوطات النفسية. كما دعت السلطات المعنية إلى التحلي بجدية أكبر في التعامل مع قضايا النساء ضحايا العنف.
ونظرا لتفاقم ظاهرة تعنيف المرأة وانتشارها في تونس خصوصا خلال السنوات الثلاث الأخيرة كان لصندوق الأمم المتحدة دور محوريّ في افتتاح أحد مراكز الايواء الذي يضم 10 غرف. بدعم فني ومالي قدمته لتوفير الضمان اللازم للنساء ضحايا العنف. يأتي ذلك في إطار برنامج تعاوني هدفه تعزيز المساواة بين الجنسين. والتزم الصندوق بمبدأ حماية حقوق النساء والفتيات المعنفات وتحسين حصولهن على الخدمات الأساسية أثناء فترة اقامتهن داخل المأوى، واحترام سلامتهنّ وصحتهن النفسية والجسدية.
تجربة امرأة معنفة ومنبوذة اجتماعيا مع مركز الايواء
دليلة هي أم لثلاثة أطفال تبلغ من العمر 37 عاما. تعرضت للظلم ونُبذت من الناس منذ نعومة أظافرها. لاحقتها نظرات الازدراء ولقب الفتاة اللقيطة منذ صغرها. تعرضت للعنف اللفظي والنفسي والجنسي والاقتصادي.
حُرمت من أبسط حقوقها كإمرأة، فلم تعرف قدميها الصغيرتين وهي طفلة طريقهما نحو المدرسة. وحين كبرت لم تتسنّى لها إيجاد فرصة عمل تقتات منه لقمة عيشها بكرامة. فاضطرت لممارسة البغاء لتعيل نفسها وتوفر متطلبات طفليها اللذين أنجبتهما لاحقا دون زواج.
تستهل دليلة حديثها مسترجعة ذكرى أليمة غير بعيدة "مؤخرا تعرضت للضرب المبرّح والاغتصاب من طرف مجموعة أشخاص هاجموا منزلي ونعتوني بأبشع الصّفات أمام أطفالي غير مبالين بتوسلاتي وبحالة الفزع التي انتابتنا جميعا".
وقد اعتبرت بأن غياب سند يحميها ويأويها من أمثال هذه الذئاب البشرية كان الدافع الرئيسي الذي جعل أغلبية المحيطين بها يتطاولون عليها ويستبيحون جسدها. عاشت طفولة قاسية، إذ أنجبتها والدتها خارج إطار الزواج ولازالت لحد الساعة عاجزة عن الوصول إلى مكان والدها البيولوجي.
لم تتلقى أثناء طفولتها الرعاية العائلية اللازمة في ظل عائلة متكاملة ومتماسكة، ولم تزاول تعليمها بالمرحلة الإبتدائية كأترابها، نبذها المجتمع، وأمضت صِغرها في الشارع تلاحقها نظرات الإحتقار والاستهجان والتّنمّر.
تمتلك دليلة بطاقة هوية تغيب عنها بعض المعطيات الشخصية التي من المفترض أن تتوفر فيها، كإسم الوالد، باعتبارها حالة اجتماعية. الأمر الذي أثر عليها سلبا خصوصا في رحلة بحثها عن عمل.
بعد الحادثة التي تعرضت لها وتدهور حالتها النفسية خيرت التوجه إلى أحد مراكز الايواء بحثا عن الطمأنينة وشعور الأمان الذي افتقدته في أمكان أخرى من ضمنها منزلها. تم استقبالها لبضعة أشهر رفقة أطفالها والاحاطة بهم اجتماعيا وطبيا ونفسيا لمساعدتهم على تجاوز الأزمة التي يمرون بها. وعلى اثر الاتصالات التي أنجزها القائمون على مركز الايواء للبحث عن حلول قد تساهم في تحسين حياة دليلة وأبناءها تحركت بعض الجهات المعنية بالأمر لمساندتها ودعمها. أبرزها جمعية النساء الديمقراطيات فرع القيروان، والمحامية ماجدة مستور التي أكدت بعد التتبعات العدلية التي قامت بها أنه قد تم الحكم مؤخرا بالسجن على بعض الأفراد الذين اقتحموا منزل دليلة واعتدوا عليها بالعنف أمام أطفالها القاصرين. وقد تراوحت الأحكام بين أربعة أشهر وعام وأربعة أشهر.
امرأة من المجتمع لم ترغب بشيء أكثر من موطن شغل يوفر لها حياة كريمة، وإسناد لقب والدها لها لتتجاوز احساس الاهانة والذل الذي تشعر به كلما سألها شخص عن هويته كاملة. وهو ما حرصت على تحقيقه الأستاذة المحامية حيث تمكنت بعد اجراء أبحاث معمقة من الوصول إلى اسم الوالد كاملا ورفعت قضية لدى القضاء لإجراء تحليل جيني واسناد لقب الأب إلى وكيلتها. أما بخصوص العمل فقد تلقت دليلة دورة تكوينية في الخياطة أثناء اقامتها بمركز الايواء وفور مغادرتها رفقة طفليها تمكنت من الحصول على عمل مع احدى الخياطات في منطقة مجاورة لسُكناها.
رغم حملات التوعية المكثفة نبه أخصائيون في علم الإجتماع وعلم النفس وجمعيات نسائية وفقا للعديد من التقارير أن نسبة العنف الموجه ضد المرأة تبلغ حاليا 50% وهي نسبة مفزعة أكدوا على ضرورة الحد منها وإيلائها الأهمية اللازمة ووضعها ضمن الأولويات الوطنية لأجندة صناع القرار في تونس
مقال صحفي بقلم: حسان النابتي