كان سعيّد يعلم أن قصر قرطاج، وعلى مرّ التاريخ، غير بعيد عن القضية الفلسطينية التي خصّها التونسيون بمكانة متميّزة ودعم مطلق بكل الوسائل، وقدّموا من أجلها ضريبة الدم والأنفس البشرية قرابين عدالتها وشرف الدفاع عنها، منذ كلّف مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الزعيم عبد العزيز الثعالبي بتنظيم مؤتمر القدس سنة 1931، وعلى مرّ الأزمنة واختلاف الحكّام والأنظمة. وهو يعرف أن الرئيس الحبيب بورقيبة أفسد شعبيته العربية ولدى شعوب ودول منظومة عدم الانحياز والعالم الثالث المناصرين لفلسطين وقضية شعبها العادلة عندما دعا من أريحا سنة 1965 العرب إلى التفاوض مع "إسرائيل" والاعتراف بها وفق قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين لسنة 1947، ولم يُصلح حال تلك الشعبية إلا بإدانة أكبر اتفاقيات التطبيع العربية، اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها الرئيس المصري أنور السادات مع الكيان الصهيوني سنة 1979، ومقاطعة النظام المصري آنذاك، ونقل مقرّ جامعة الدول العربية إلى تونس، وذلك قبل الاستقبال الشعبي والرسمي الجماهيري لمقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في ميناء بنزرت بقيادة ياسر عرفات سنة 1982، وجعل ضاحية تونس الجنوبية (حمام الشط) مقرّا للقيادة للفلسطينية (1982 - 1993) التي كانت هدفا للقصف الصهيوني سنة 1985.
مرّت ثلاث سنوات على إطلاق الرئيس قيّس سعيّد مقولته ذات الشهرة ذائعة الصيت، التي تحوّلت إلى أيقونة وزينة في معاجم مقاومة الصهيونية والتصدّي لغطرستها وجرائمها اليومية في حق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس وفلسطين التاريخية لسنة 1948، من دون أن يشهد حكم سعيّد تطبيق أحكام الخيانة العظمى على أحد، رغم الممارسات والعلاقات التطبيعية التي يكشفها من فترة إلى أخرى نشطاء المجتمع المدني - الحقوقي المناهض للتطبيع، ويقاضي أصحابها أمام المحاكم التونسية، ومن دون ترجمة عملية لدعوات تجريم التطبيع في التشريعات التونسية التي أطلقتها أكثر القوى مساندةً للرئيس وسلطته. انتظرت هذه القوى، التي كانت تدين المجلس الوطني التأسيسي والبرلمان والأغلبية الحاكمة الإسلامية - اللائكية 2011 - 2021 المنبثقة عن كليهما، لعرقلتها إدراج تجريم التطبيع في دستور 2014، وعدم خص المسألة التطبيعية بقانونٍ يجرّمها وإجهاض مبادرة الجبهة الشعبية سنة 2015 ونظيرتها التي تقدّمت بها الكتلة الديمقراطية سنة 2020، أن يُصدر الرئيس سعيّد مرسوما في الغرض، بصفته صاحب الأمر والنهي والحكم المطلق بعد 25 يوليو/ تموز 2021، ويمتلك صلاحية إصدار القوانين والمراسيم، أو أن يدرج التجريم في أحد فصول دستوره الذي وضعه بنفسه، واستفتي فيه التونسيون يوم 25 يوليو/ تموز من العام الجاري. لكنه نأى بنفسه عن مجرّد الإشارة، ولم ينطق بكلمة تطبيع ألبتة في خطاباته ولقاءاته وبياناته وبلاغاته التي تنشرها صفحة رئاسة الجمهورية على "فيسبوك" بصفة متواترة. وبلغ به الأمر إلى حدّ نسيان المصطلح أو تناسيه بالمرّة حتى في أثناء زيارة الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، تونس قبل سنة واستقباله في قصر قرطاج.
وذهب سعيّد إلى أكثر من ذلك، فلم يبد أي تحفظ على "إعلان جربة" المنبثق عن القمة الفرانكفونية الثامنة عشرة المنعقدة بجزيرة جربة بالجنوب الشرقي التونسي يومي 19 و20 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) بمشاركة ممثلي 89 دولة منهم 31 رئيس دولة وحكومة، بالرغم من الاعتراف الواضح بشرعية الدولة الصهيونية واحتلالها أرض فلسطين التاريخية، وذلك في النقطة 38 والأخيرة من هذا الإعلان، وهي النقطة التي تحفظت كندا على فقرتيها الأولى والثانية، وجاء فيها:
- ندعم الجهود الدولية لإقامة سلام عادل ودائم وشامل في الشرق الأوسط من شأنه إنهاء الاحتلال والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإيجاد حل لدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة توفر الحياة الكريمة وتمتد جغرافيا على أساس حدود 4 جوان 1967، وعلى أساس القرارات 242 و338 و 1397 و 1515 و 2334 لمجلس الأمن ومؤتمر مدريد لسنة 1991 ومبادرة السلام المعتمدة في قمة بيروت العربية سنة 2002.
- ندعو الأطراف المعنية لاستئناف مفاوضات مباشرة بناءة وذات مصداقية بهدف الوصول إلى حل عادل ودائم لجميع القضايا المتعلقة بالوضع النهائي، بما في ذلك القدس، والحدود، والأمن والتعامل العادل والمستدام مع وضعية اللاجئين.
- ندعو جميع الأطراف إلى الامتناع عن أي عمل استفزازي أحادي الجانب، قد يزيد من تعميق مناخ عدم الثقة ويعرقل إمكانية الوصول إلى اتفاق سلام شامل ودائم في الشرق الأوسط.
- ندين وبشدة التحريض على العنف وجميع أشكال العنف؛ كما ندين بشدة توسّع المستوطنات وعمليات الهدم والإخلاء.
- نحث المجتمع الدولي على التمسّك والحرص على الوصول الى اتفاق عادل بخصوص مسألة اللاجئين، والى دعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط (وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين) والتي تساهم في استقرار المنطقة من خلال القيام بمهمتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين في مراكز العمليات الإقليمية الخمسة.
وطبقا لما ورد في هذا الإعلان، فإن الرئيس قيس سعيّد بصفته رئيس المنظمة الدولية الفرانكفونية 2022 - 2024 بات ملزما بما ورد في نقطته عدد 38، فضلا عن أنه لم يبد اعتراضا على الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني والبحث عن "السلام" معها في إطار حل الدولتين وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومؤتمر مدريد وقمة بيروت، وفق صريح النص الذي يصف المقاومة الفلسطينية من أجل استرجاع الأرض المحتلّة والدفاع عن العرض والتصدي للتهويد والصهيونية الدينية وطمس مقوّمات الذاتية الفلسطينية بأنها عنف، ويضعها على قدر المساواة مع القتل على الهوية واحتلال الأرض والاغتصاب والتشريد واقتحام وتدنيس المسجد الأقصى ومختلف المقدسات الإسلامية والمسيحية من قطعان المستوطنين والجينوسيد الذي تمارسه الدولة الصهيونية على الفلسطينيين.
لم تمض أيام على إعلان جربة الفرانكوفوني، المسوّق في غفلة من التونسيين ونشوة بعضهم بالأجواء الاحتفالية للقمّة، لفكرة الاعتراف والسلام مع الدولة العسكرية - الدينية القائمة على جماجم مئات آلاف الشهداء العرب الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، حتى نقلت وسائل الإعلام العالمية فيديو "الابتسامة التطبيعية" و"الدردشة الخاطفة" لرئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن مع الرئيس الصهيوني، إسحاق هرتسوع، وقد اعتبرتها الصحافة الصهيونية "تبادلا للتعارف والدعابات"، على هامش التقاط صورة تذكارية لقادة الدول المشاركين في قمّة المناخ في شرم الشيخ بمصر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المنقضي، ليطفح بعد ذلك على صفحات الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) الأمر الرئاسي عدد 917 المتعلق بالموافقة على بروتوكول بشأن الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في المتوسط المعتمد في مدريد في 21 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2008، وهو الأمر الذي لا يخلو نشره من خلفية تطبيعية. لقي هذا البروتوكول معارضة شديدة من داخل المؤسسة التشريعية التونسية من سنة 2008 إلى 2021، ولم تستطع الحكومات المتعاقبة تمريره والمصادقة عليه، وتم سحبه في مطلع يونيو/ حزيران 2020 من الجلسة العامة، بعد أن صوّت لقرار السحب 144 نائبا من بين 217. صاحب مناقشة تلك الاتفاقية جدلٌ حادٌّ ورفض قاطع من تيار مناهضة التطبيع واسع الانتشار داخل البرلمان وخارجه، بسبب الإجماع الذي تحظى به القضية الفلسطينية في تونس بين فرقاء الأيديولوجيا والسياسة، وللدور الفاعل الذي لعبته "الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني"، و"حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل"، التي أصدرت بيانا يوم 3 يونيو/ حزيران 2020 بعنوان "لا للتوقيع على بروتوكول مدريد لحماية السواحل ورفضا لشعبوية المساندين له". لا تتمتع هذه الاتفاقية بالأولوية التشريعية أو هي محل استعجال نظر، لاسيما في ظل عدم وجود مجلس تشريعي منتخب، يعبّر عن الإرادة الشعبية، ولا تُعرف الدواعي التي دفعت الحكومة إلى خصها بمجلس وزراء يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المنقضي للتداول في فحواها والإسراع في أن يوقعها رئيس الجمهورية يوم 29 من الشهر نفسه (ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني)، رغم اللغط الذي أثير بشأنها في أكثر من مناسبة. والسجالات التي صاحبتها لا شكّ أن سعيّد على إطلاع على تفاصيلها وحيثياتها، في ما يقدّم إليه من وثائق شرح الأسباب، لكن المعلوم اليوم هو القرار الذي اتخذته وكالة "فيتش رايتنغ" للتصنيف الائتماني بتغيير تصنيف تونس من ccc إلى ccc + مع آفاق إيجابية، متجاهلة حجم التضخم الذي بلغ 9.8%، وحجم المديونية المتفاقم بما يتجاوز 125 مليار دينار حسب جديد أرقام موقع "دين" الدولي، المتخصص في ديون الدول وتهاوي قيمة الدينار وتقلص احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي التونسي إلى 97 يوم توريد، وغير ذلك من العناصر المعتمدة في مصفوفة التصنيف، الأمر الذي يشي بصفقة ما عُقدت بعيدا عن الأنظار أو عملية مقايضة قد تتجلّى خفاياها قريبا في سوق السياسة الدولية.
د. سالم لبيض