الخميس، 21 نوفمبر 2024

الإعلام جبهة أخرى للحرب على الإرهاب

11 مارس 2016 -- 12:59:08 1458
  كتبه سيف الدين العامري / كاتب صحفي نشر في راي و تحليل

خطوط الإمداد الأولى التي يجب قطعها في هذه الحرب من جانبها الإعلامي هي الخطوط الرابطة بين خيال المتلقي وصورة الإرهابي المنتصر.

راج في حضارة الكونفوشيوس قديما أن قبائل المغول وجماعات من البنغال والهنود والبشتون اتفقت على غزو أجزاء من إمبراطورية "التشو" لأسرة "كونغ" الصينية العريقة.

فحدث أن سمع تاجر صيني من أحد عساكر البنغال أن الخطة جاهزة وأن الهجوم وشيك، فعاد التاجر إلى بلاده لملاقاة الإمبراطور وإخباره عما يدور في ممالك الجوار، وقال "هم شعوب شتى تريد غزونا من أماكن مختلفة".

فما كان للإمبراطور "شيو كونغ" سوى أن أمر بكتائب صغيرة ترابط في حدود مملكته وتشعل النار باستمرار فوق كل قلعة حدودية، وأن يكتب على كل باب منها جملة صغيرة بلغات أقوام الغزاة "بعد هذه القلاع والحصون ستجدون عالما لا تغيب فيه الشمس".

مرت الأسابيع وجاء هجوم البنغال والهنود والبشتون، فوقفت جحافلهم أمام القلاع ليقرؤوا الجملة المكتوبة بخط عريض وبحبر مكثف. فاعتقدوا أنهم سيدخلون مساحة شاسعة من الأرض وسوف ينهزمون فيها لأن الشمس لا تغيب في الأماكن الشاهقة جدا والأرض الواسعة جدا حسب معتقداتهم. فعادت جيوشهم تجر الحسرة والخوف، الخوف من ورطة قد تفني أقوامهم إلى الأبد.

وبذلك صنع الإمبراطور "شيو" ما يسميه علماء الاتصال اليوم بـ"خلق وهم العظمة"، وهو وهم لا يمكن أن يؤتي فعاليته سوى عبر الانتشار الذكي والواسع في آن واحد لرسالة واحدة.

الأمر يشبه فعلا ما تقوم به داعش اليوم، فلو تأمل المتابع للأحداث منذ هجمات الـ11 من سبتمبر 2001 إلى حدود هذه اللحظات مرورا بتهييج عش الدبابير في أفغانستان وغزو العراق (جريمة القرن الأخلاقية) وعمليات لندن ومدريد والدار البيضاء وما يسمى اليوم بـ"الربيع العربي" وظهور داعش على إثره، فإنه يكتشف نكهة غامضة في جغرافية الهجمات ورموزها، بشكل يوحي أن أرباب الإرهاب يبحثون عن خلق تصور لدى الآراء العامة مفاده أن "الإرهاب مملكة لا تغيب فيها الشمس" وأن كل من أراد كفاحها سوف يغرق في مساحة معارك شاسعة جدا قد تفنيه وتفني قومه إلى الأبد.

هذه "الألعوبة" الاتصالية إن صح التعبير، وهي تنم عن ذكاء بارع لدى مستعمليها، ترفع الغطاء عن قدرة عميقة وجريئة للإرهاب على الخيال والتصور والتنفيذ. المسألة التي أمامنا الآن ليست بسيطة كما يعتقد البعض، في أن تحسم بالقوة والضبط داخل جهاز الدولة الضخم، وليست مختزلة كما يعتقد البعض الآخر في محاربة الرموز والأيديولوجية التي يقوم عليها الإرهاب: بل إن المواجهة ـ أيضا ـ تتطلب إطلاق ملكة الخيال لدى الطرف النقيض للإرهاب الداعشي، أي الإنسان.

ينعكس تخطيط الإرهابيين في إيهام العالم أن "مملكتهم" لا تغيب فيها الشمس عبر أحداث عديدة تتنزل في سياق إستراتيجية كاملة ومتباعدة في الزمن، ترتكز إلى عالمية الهجمات ويتم إسنادها بوسائلهم الإعلامية ثم وسائل الإعلام التقليدية المعروفة. واشنطن، فيلادلفيا، لندن، مدريد، الدار البيضاء، تونس، باريس، بروكسل، بانكوك، مقديشو، دار السلام، بغداد، دمشق، بيروت وغيرها من العواصم في دول العالم كانت مسرحا لعمليات إرهابية مكثفة ورمزية.

وبهذه الطريقة أشعلت مملكة الخيال الإرهابية نار الحرب في قلاع عديدة وفي عمق مساحات ليست معنية حضاريا بالتطرف الديني منذ ثورات الأنوار، وهذا في حد ذاته رسالة اتصالية مفادها أن الإرهاب لا تقف أمامه قلاع حصينة. لم يبق إذا وبعد كل هذا سوى أن يتم نشر الأخبار بكثافة عن الحدث، بعد بيان أو شريط مصور للجماعة الإرهابية تتبنى فيه المسؤولية، أو أن تقوم فعلا بارتكاب الجريمة أمام آلة التقنية الإعلامية (كحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة مثلا). فيأتي الهلع ويتمكن الخوف شعوبا بحالها وتكثر اللحظات العاطفية والظرفية المتسمة بالإفعام والكثافة، لتدفع إلى فتح منابر الآراء والتحليلات.

وفي هذا السياق "النفسي الإعلامي" تحدث ظاهرة الخيال، أي تخيل عدو أسود موجود في شكل كتائب صغيرة تشعل النار في قلاع متباعدة وتكتب في أبواب تلك القلاع أن مملكة الإرهاب شاسعة ولا تغيب فيها الشمس.

هل هذا ما وقع في حالة ملحمة بن قردان؟

قطعا الإجابة بالنفي. ففهم سياق الحرب الإعلامية والنفسية التي يقوم بها الإرهاب اليوم يمكّن المتابعين من إيجاد معايير يمكن أن تُفهم بها تحركاتهم ورسائلهم بشكل أكثر دقة ووضوح.

فاللعب على المساحة الجغرافية المتباعدة والقوة الرمزية لعمليات القتل التي يقومون بها أصبحا آليتين معهودتين لدى الجماعات الإسلامية المسلحة.

عملية بن قردان الأخيرة أرادت أن تجر الدولة التونسية إلى مساحة أوسع للمعارك، وخلق جبهة متقدمة للجبهة الليبية داخل تونس، بإسناد من إرهابيين في الجوار نظرا لعدم وجود جهاز الدولة فيها.

وبهذا المدخل يمكن أن نفهم من العملية على أنها جر لتوسيع جغرافيا العمليات على خط جبهة أطول يشبه الجبهات الكلاسيكية في الحروب النظامية، ولنتخيل معا ماذا يمكن أن يحدث لو تم استنزاف الجيش في تلك الجبهة الواسعة وإسناد الاستنزاف بعمليات داخل التراب التونسي إما انتحارية أو مسلحة.

الإعلاميون وما قاموا به في مدينة بن قردان كان في سياق ملحمي نموذجي هام. لم يسقط الصحفيون التونسيون في فخ الدعاية للإرهاب رغم وجود بعض المقالات والمواقع الالكترونية التي سارعت إلى إعلان "إمارة داعشية في المدينة" أو "سيطرة ظرفية على مواقع في المدينة".

هذا الأداء الملحمي الصحفي والاتصالي الذي يعتبر في مستوى المعارك العسكرية بالرصاص الحي، أدى إلى عزل الرابط الذهني الذي تبحث عنه داعش بين الآراء العامة وبين تخيل العدو الوحشي، فما كان للمعارك في بن قردان إلا أن كانت مصورة على أنها: دولة تلاحق مجرمين وقتلة وقطاع طرق وكائنات تشبه البشر لها شعور رثة ولحيّ وسخة وألبسة غريبة، وهذا المطلوب بدقة.

إن تصوير مثل هذه الأحداث يكتسب أهميته وفعاليته في حالة كان التصوير من جانب الدولة (القوة الأمنية والعسكرية المسلحة) ثم يقطع الرابط الخيالي بين المتلقي والإرهاب، ثم يعود الرابط إلى طرفي الرسالة الاتصالية (الباثّ والمتقبل) ليرى المتلقي نتائج قوة الدولة وهي موت الإرهاب وانتصار الوطن.

فالمعركة أيضا وبالأساس إعلامية، و الإعلامي اليوم فهم قواعد الاتصال وكان قادرا على الخيال بشكل أقوى من الإرهاب.

آخر تعديل في الجمعة, 11 مارس 2016 13:20

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة