الخميس، 28 مارس 2024

تونس اليوم.. أزمات مستفحلة وحلول غائبة.. مميز

01 جوان 2018 -- 18:18:51 756
  نشر في راي و تحليل

تونس/الميثاق/رأي

إن أزمة هيئة الإنتخابات وجميع الأزمات التي تعيشها بقية الهيئات والمجالس الدستورية وغير الدستورية كما تلك التي ستعيشها المحكمة الدستورية حال إكتمال تركيبتها هي أزمات هيكلية وليست ظرفية..
وهي ناتجة أساسا عن استعمال حزب حركة النهضة للديمقراطية ولأغلبيته لما كان يسيطر على المجلس التأسيسي للإعتداء على الجمهورية الثانية وإضعافها وتجييرها لخدمة مصالحه ومشروعه الأصلي..

تمكن حزب الحركة من إفتكاك المرحلة الإنتقالية الثانية وما تلاها عن طريق سن دستور على المقاس لإنشاء الدولة الجديدة التي يريدها.. دولة الفوضى والتفكك..لا كما أرادها التونسيات والتونسيون دولة الحق والقانون..
دستور تغلبت أحكامه المنغلقة والمضادة للدولة المدنية على أحكامه التحررية إذ يتم تأويلها وتطبيقها وفقا لموازين القوى على الأرض.. وفق منطق التدافع والمغالبة..

افتك المرحلة كذلك عن طريق تغيير بعض قوانين الجمهورية خدمة لمصالحه الحزبية الضيقة.. فتمكن من تغليب منطق الولاء على الكفاءة في كافة مؤسسات الدولة.. ومن ضمنها مؤسسات الثورة.. ونجح في إدخال العناصر الموالية له لتلك الهيئات والمجالس والمؤسسات..
أهلك حزب الحركة وبالتواطؤ مع حلافائه بالمجلس التأسيسي من "الديمقراطيين" ومن الأحزاب الموالية له كالمؤتمر والتكتل..ومع حلفائه التوافقيين في مجلس نواب الشعب كالنداء والخارجين عنه.. كامل مسار الإنتقال إلى الديمقراطية. وواصل لسنوات وبدون أي رادع عملياته الممنهجة لإختراق الدولة وبث العيون في مفاصلها.. وجعلها تابعة لمؤسساته العلنية والسرية..

فاعتدى بذلك على الدولة التونسية وأضعفها وأمعن في ذلك.. باختيار نظام سياسي هجين لا يسمح بمعرفة من يحكم ولا من يحاسب على سوء الأداء.. ففرّق الدم بين القبائل وانتصب للتلاعب بالجميع مستغلا ضعف النفوس والتكالب على المواقع والإمتيازات لدى طبقة سياسية رديئة عموما معتمدا في ذلك على حصيلته الثمينة من المعلومات والمعطيات التي صادرها فترة توليه الحكم وسيطرته خاصة على وزارة الداخلية..
حرف حزب الحركة عملية الانتقال الديمقراطي عن مسارها الصحيح وأفلس الدولة وأفقر التونسيين وخلق سوابق سيئة في الاستيلاء على المؤسسات المستقلة وفي الالتفاف على القوانين لتحقيق برامجه في السيطرة على مفاصل الدولة..وهي سوابق سيئة غير مسبوقة.. سمحت لنداء تونس فيما بعد وحين ربح الإنتخابات بإتيان نفس الأفعال تقريبا..
إن من كرس الرداءة في المشهد السياسي التونسي بعد الثورة هو حزب الحركة الذي عمل ما في وسعه لإقصاء المجتمع المدني من المشاركة في الشأن العام..
كان المجتمع المدني التونسي العامل الرئيسي الذي مكّن تونس من إنجاح المرحلة الإنتقالية الأولى بعد الثورة مباشرة.. ومن المرور والخروج منها في أقصر الآجال والتكاليف وبسلام..ويبعيون توّاقة لمستقبل مشرق..

وقد تم ذلك عن طريق هيئة تحقيق أهداف الثورة والهيئة العليا المستقلة للإنتخابات وهيئة إصلاح الإعلام والإتصال..
جميع هذه الهيئات تم القضاء عليها حالما تولى الحكم.. إذ حُلّت هيئة تحقيق أهداف الثورة التي لم يكن يملك فيها الأغلبية وعُوّض بقية أعضاء الهيئات المستقلة ببعض العناصر المختارة بعناية والتي تدين في أغلبها بالولاء له...

وضع قوانين تمنع أعضاء تلك الهيئات من قياديي منظمات المجتمع المدني من الترشح لها أصلا.. وألغى عضوية المجتمع المدني أساسا في تركيباتها.. وعوّل في ذلك على مساندة بعض الدول والمنظمات الغربية التي لم تبد أية اعتراضات على وضع قوانين إقصائية مخالفة لأبسط مبادئ حقوق الإنسان.. وللعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بل ومخالفة لأبسط المبادئ الدولية المتعارف عليها في مجال الإنتخابات مثلا والتي تمنع تغيير القوانين أساسا سنة إجراء الانتخابات..

لم تر تلك الجهات أي مانع لإقرار ”فضيحة“ التحصين التشريعي لقرارات لجنة الفرز بمجلس نواب الشعب وهو قانون تمت المصادقة عليه سنة 2014 ويمنع نهائيا الطعن في أية قرارات ولو كانت مضادة للمبادئ الأساسية للقانون ولو كانت خاطئة.. لدى القضاء الإداري..
منع القضاء من مجرد النظر فيما يرتكبه من جرائم قانونية..

تمكن حزب الحركة بدعم دولي من إقصاء زبدة ما أنتجته تلك الهيئات المستقلة من كفاءات على المستوى الوطني والجهوي وكانت نابعة من المجتمع المدني المناضل قبل الثورة وبعدها.. فقضى على استقلالية تلك الهيئات وعلى مصداقيتها ومنعها من المساهمة في تعديل عثرات مسار الإنتقال الديمقراطي.. وأغرقها في الرداءة والبحث عن الولاءات..

كان المجتمع المدني قد ساهم بقوة في وضع أغلب القوانين التي ساهمت في تركيز أسس الديمقراطية في تونس بعد 14 جانفي 2011...وأهمها قانون الأحزاب وقانون الجمعيات والمراسيم المتعلقة بالإعلام والمرسوم عدد 27 المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للإنتخابات والمرسوم عد 35 المتعلق بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وغيرها من القوانين والتراتيب التي تم إلغاء أغلبها أو تعديلها أو الحط من قيمتها ومنع تطبيقها بتأويلات غير قانونية..

أغلب القوانين التي تم وضعها أو تعديلها بعد المرحلة الإنتقالية الأولى كانت قوانين غير ديمقراطية ونشهد يوميا الصعوبات الكبيرة في تأويلها وتطبيقها..لأن الغاية منها لم تكن مواصلة التقدم بعملية الإنتقال الديمقراطي بل السيطرة والإختراق والتحكم..
أبرز الأمثلة على ذلك قوانين هيئة الانتخابات والمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية وغيرها كثير وتتعلق بهيئات ومؤسسات إما تشهد مشاكل داخلية كبيرة نتيجة الإختراق والمحاصصة الحزبية وإما عاجزة أصلا عن الفعل..


ويستحيل مستقبلا إصلاح الوضع المتأزم الذي نعيشه حاليا على جميع المستويات إلا بإجراء عملية تقييم شامل وعملية مراجعة عميقة..
يجب مراجعة دستور سنة 2014 خاصة فيما يتعلق بالنظام السياسي الذي أثبت حدوده ونقائصه..
كما يجب التفكير في مراجعة جميع القوانين التي وضعها حزب الحركة بالاشتراك مع حلفائه في المجلس التأسيسي.. ومنذ سنة 2014 بالإشتراك مع حزب حركة نداء المسؤول الثاني عن تدهور الأوضاع العامة بالبلاد..

يجب مراجعة جميع الأنظمة و القوانين المعادية للحريات ولمنطق الديمقراطية وكذلك تلك التي رفض حزب الحركة مراجعتها حال أن ذلك يتنافى مع مصالحه الذاتية..كالنظام الإنتخابي الذي كان يصلح لانتخاب أناس يكتبون دستورا توافقيا ولكنه لا يصلح لإدارة المؤسسات وطنيا وجهويا..
ذلك هو المشروع الوحيد الحقيقي المتبقي الذي يمكن أن يتبلور من خلاله إصلاح شامل للحالة الوطنية الراهنة..
وهو مشروع يمكن أن يتسع فيما بعد لإصلاح الدولة التونسية بما في ذلك الإدارة العمومية والمنظومة القضائية والتعليم والصحة والنقل وغيرها...
وهو مشروع مضاد لمشروع الهيمنة والإختراق والتحكم والرداءة الذي طبقه حزب الحركة ونجح فيه إلى حد اليوم..
تعيش تونس اليوم تحت ظل مشروع مدمّر لا مضادّ له.. لم ينتج عنه سوى الأزمات والخراب والتقهقر وضياع المكتسبات... فأينما تلتفت لا ترى غير المشاكل والأزمات والإنهيار الشامل لمؤسسات كانت تشتغل وتؤدي دورها إن لم تكن ناجحة تمام النجاح..وتم للأسف القضاء عليها...أو تدجينها والإنحراف بها..
والمسألة في نظري لا تتعلق بشن حرب لا هوادة فيها على حزب الحركة ولا بإقصائه من جميع مواطئ قدمه الحالية في الدولة...
إنما الأمر يتعلق أساسا في نظري باسترجاع تونس لما افتكه حزب الحركة عنوة وبدون وجه حق... عن طريق الشروع في عملية إصلاح شامل لمنظومات قانونية مخترقة تسمح بجميع التجاوزات.. لكي لا يتمكن من يصعد إلى سدة الحكم مستقبلا..كما فعل نداء تونس مثلا من استعمال جميع تلك السوابق السيئة للسيطرة والتحكم وفرض كلمته على المجتمع برمته..في تعارض تام في أغلب الأوقات مع المصالح الوطنية العليا..
قضى حزب الحركة على الثورة ويهدد منذ فترة عملية الإنتقال الديمقراطي برمتها.. ومنع ويمنع خلق مؤسسات قوية تمكن تونس من المضي إلى الأمام.. فجميع المؤسسات تعيش اليوم أزمات نتيجة قيامها على أفراد إن انحرفوا انحرفت وإن صلحوا صلحت.. وهو ما لا يمكن أن يتواصل إلى الأبد لأن نتيجته لن تكون غير الخراب والدمار...
يجب أن نخلق دولة مؤسسات دائمة ومستقرة لا تقوم على النزوات والرغبات والمخططات الخارجية أو الداخلية بل على مبدأ احترام الدستور والقوانين.. وعلى محاسبة من يرفض احترامهم..
يجب الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل للإنقاذ يحدد مواطن الخلل في القوانين والمؤسسات.. ليتخذ إجراءات عاجلة وقوية لإعادة مسار الانتقال إلى سكته.. وإلا فلا أمل في إصلاح أي شيء وسيبقى الإعتباط والإرتجال والحسابات الحزبية والمصلحية الضيقة سادة الموقف..وهو ما لا يمكن أن يؤدي إلا إلى أسوأ العواقب.

سامي بن سلامة

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة